طلسم الدرويش شاهين

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2022-01-01

(قصة)

طلسم الدرويش شاهين

تأليف

إيهاب أحمد عابدين

أركان الحقيقة تجتهد في أن تسبق الخيال في تلك الحكاية، يبدو أنهم قد تعذبوا كثيرًا، لا أعلم ربما كانوا يستحقون، يبدو لي كذلك، فما رأيك؟ 

بأحد المقاهي في الحسين الساعة السابعة صباحًا 

في ساعة مبكرة من النهار على أحد مقاهي منطقة الحسين تحديدًا المقهى الذي يقع خلف مقام (حسن الذوق) عند باب الفتوح، كان صوت (النقشبندي) ينشد من راديو على رف من زان معلق على جدار في المقهى: أدعوك يا رب، فاغفر ذلتي كرمًا واجعل شفيع دعائي حسن معتقد. 

يجلس شابان قد تعدى سنهما الثلاثين بقليل، أحدهما يظهر عليه الارتباك والشرود، أما الآخر فهو مشغول بين النظر على باب مصر القديمة والنظر إلى هاتفه المحمول، يغلب الظن على هيئته أنه ينتظر شخصًا ما قد تأخر عليهما، يقطع انشغالهما صبي المقهى وهو يأتي حاملًا صحفة عليها كوبين من الشاي قائلًا: 

- تؤمروا بحاجة تانية يا رجالة؟ 

أجاب أحدهما: 

- متشكرين يا رياسة، بس وحياة أبوك علي صوت النقشبندي شوية. 

- تحت أمرك يا أستاذ (عبده). يتحدث الشاب الآخر وقد اعتلت وجهه لمحة من الضيق، قائلًا: - يا (عبده الراجل اتأخر كده ليه؟ يضحك (عبده) ضحكة عريضة محملة بالسخرية ويقول: 

- يا عم (أدهم) احمد ربنا إنه رضي يقابلنا أصلًا، الراجل ده ما بيطلعش من بيته لأي حد، اهدا بس واسمع النقشبندي، يا أخي سبحان الله، تحس إن النقشبندي ده صوته عامل زي دعوة المظلوم، ما فيهاش بينها وبين السما استئذان. 

قال هذه الجملة (عبده) واعتدل في جلسته ثم عاد إلى حديثه مرة أخرى مع (أدهم) في محاولة منه أن يلفت انتباهه عن تأففه من طيلة الانتظار. 

- انت تعرف يا صاحبي إن زمان على جبل المقطم قرب منطقة الفسطاط كده، كان في طلسم 

معمول بيحمي الأهالي من التماسيح اللي طالعة من النيل، كانوا بيقولوا إن التماسيح أول ما تجوع تطلع من النيل وأول ما تعدي على الطلسم تتقلب على ضهرها وتموت ومتعديش. 

ينظر إليه (أدهم) ويضحك ثم يسأل (عبده) بلهجة ساخرة: - لا يا راجل، طلسم بيقلب التماسيح اللي طالعة من النيل على ضهرها، وانت عرفت منين بقي حكاية طلسم التماسيح دي؟ 

يقاطعه (عبده) قائلًا: 

- مش بس كده، طب انت تعرف إن أبو الهول كان معمول على راسه طلسم 

بيمنع أي رياح شايله رملة تعديه، وكان وقتها اسمه حامي مصر. 

يقاطعه (أدهم) بضحكة ارتفع فيها صوته قائلًا: 

- ما تبطل نخع يا ابني انت بقى، والله ضحكتني وانا مليش نفس أضحك. 

ينظر إليه (عبده) في ضيق مستهجئًا سخرية (أدهم): 

- انت يا عم مش بتاع نت وكمبيوتر وألعاب، خش على جوجل وابحث هتعرف إن كلامي مضبوط، كتب كتير في التاريخ قالت كده. - تاريخ 

، كمان كتب تاريخ، عارف ياد يا (عبده) انت نموذج فريد من الجهل الإنساني، انت جاهل مقتنع بجهلك، وده في حد ذاته فريد من نوعه، والكارثة إني عمري ما شوفتك مسكت كتاب ولا قريت كتاب وطول عمرك في الكشك بتاعك ما بتتحركش منه. 

يضحك (عبده) من تهكم (أدهم) عليه ثم يستطرد قائلًا: 

- أنا عرفت كل اللي بقولهولك ده من شيخ الطلاسم يا عم البروجرامر، الراجل اللي لولا مكالمتي ليه لا كان نزل من بيته ولا جالك لحد هنا، يا ابني افهم الراجل اللي جايلنا دلوقتي أبو جده الكبير هو اللي كان عامل الطلاسم دي. 

يقطع كلام (عبده) رنة من هاتفه يظهر فيها اسم المتصل على الشاشة (الشيخ بدير الجمال) 

ينتفض (عبده) من مكانه ويبتعد عن صوت الراديو ومن خلفه (أدهم) وقد تغيرت ملامحه بعد أن اكتسى لون جلده بالأصفر. 

- أيوه يا مولانا، إحنا موجودين في القهوة اللي في ضهر المقام على طول. 

- اقفل أنا داخل عليك. 

قبل يومين.. 

يجلس (أدهم) في غرفته في حي المقطم أمامه (اللاب توب) الخاص به يتفحص ما ورد إليه من إيميلات، فجأة ينتبه إلى إعلان جانبي ويخلع نظارته ويركز ناحية الشاشة، يبتسم ابتسامة عريضة ثم يتمتم بصوت منخفض: 

- حلوة المسابقة دي والمبلغ المعروض مبلغ كبير ومغري، أنا لازم ادخل المسابقة دي، ولازم اكسب، المبلغ ده على الفلوس اللي أنا محوشها هاعرف اعمل العملية ل (ندى) بدل ما هي منتظرة على القوائم بقالها سنة. 

تدخل بنت في الخامسة والعشرين من عمرها من باب غرفة (أدهم).. جميلة، وملامحها هادئة، الدموع تملأ عينيها ممسكة بصورة تجمع رجلًا وسيدة في سن الخمسين.. 

- ربنا يرحمهم يا (ندى).. أنا حزين أكتر منك على فقدان أبويا وأمي، بس كده انتي هتتعبي أكتر، والدكتور قال إنك مش لازم تتعرضي لأي ضغط عصبي. 

تجفف (ندى) دموعها ثم تقوم بسحب ورقة وقلم من على مكتب (أدهم) وتكتب عليها: 

- أنا حاسة إنك فرحان، خير فرحني معاك؟ يقرأ (أدهم) ما كتبته (ندى) ثم يضحك في وجهها قائلًا: 

- في موقع أجنبي عامل مسابقة لتطوير لعبة معينة وأحسن مطور هايطور في اللعبة ويضيف فيها شيء جديد ها يكسب مبلغ كبير أوي، أنا حاسس إني المبلغ ده ها كسبه عشانك عشان اعملك العملية وترجعي تتكلمي من تاني، أنا آخر مرة الدكتور قالي إنك لازم تعملي العملية في أسرع وقت. 

تبتسم (ندى) ثم تعود لتكتب في الورقة: 

- أنا بخير ومش عايزاك تقلق وعايزاك تركز في المسابقة، انت أكيد هتكسب مش عشان خاطري ولا خاطر العملية، هتكسب لأنك انت بروجرامر جايمر موهوب. 

يتوجه (أدهم) إلى شاشة (اللاب توب) مرة أخرى ثم يقول: 

- روحي انتي ارتاحي وأنا هسجل بياناتي على موقع اللعبة. 

تشير إليه وهي تبتسم وتحرك رأسها مشيرة بالموافقة على طلبه، ثم تخرج من الغرفة تاركة (أدهم) وهو منهمك في تسجيل بياناته على موقع اللعبة. 

- بعد إتمام عملية التسجيل، ظهر لينك لــــ (أدهم) مكتوب عليه، 

The Last Game of Death قام (أدهم) بتشغيل اللعبة والمرور عليها سريعًا، كانت اللعبة غريبة، ليست كالألعاب التي اعتاد عليها (أدهم).. بل كانت تحمل طابعًا مختلفًا عن باقي ألعاب الإنترنت، يسيطر على اللعبة إطار يوحي بالرعب، فكانت مليئة بصور غريبة، أشلاء، أموات، أنصاف جثث منشورة، هياكل عظمية، ورغم رعب (أدهم) وامتعاضه من اللعبة إلا أنه كان منبهرًا بالجرافيك والحرفية الرائعة في إظهار اللعبة بهذا الشكل الذي يبعث بالرهبة والإثارة معًا، خرج (أدهم) إلى شرفة غرفته يفكر في طريقة ما يستحوذ بها على إعجاب صانعي تلك اللعبة ويفوز بالمسابقة، قطع تفكيره صوت (سرينة) سيارة إسعاف تمر أمامه، ولم يكن هذا غريبًا على (أدهم) فهو يسكن بجانب مستشفى في منطقة المقطم مع أخته الصغيرة، وذلك بعد وفاة والديهما في حادث من سنة، توفي به والده ووالدته وأصيبت أخته بنزيف في المخ، أدى إلى ورم أفقدها النطق، ولم يصب هو إلا بكسر بسيط، أمسك (أدهم) هاتفه المحمول وبدأ في البحث عن اسم ثم اتصل به.. 

- بص أنا عارف إني مبسألش عليك، بس أنا محتاج منك خدمة ضروري يا (إسلام). يضحك المتصل من الجانب الآخر: 

(أدهم الألفي) بنفسه بيتصل بيا، والله وأنا ماسك التليفون شفت اسمك عرفت إنك عايزني في مصلحة، قول يا عم ولا يهمك، كل واحد بيعمل بأصله يا كبير. 

- حبيبي يا (إسلام).. أنا عايز منك خدمة ضروري هتنفعني في شغلي أوي. 

- قول عايز إيه، وانجز عشان ورايا نوبتجية والعيانين عمالين يموتوا مني، أنجز. 

يتنهد (أدهم) ثم يقول: 

- بالظبط كده أنا عايز أصور حد بيموت من العيانين دول، مش بس هصوره، أنا عايز أسجل صوته كمان وهو بيموت! 

صمت مطبق يحتل جبهتي المكالمة إلا من بعض أصوات المرضى في المستشفى التي يعمل بها (إسلام)... (تمرجي). 

يكسر (إسلام) حاجز الصمت، فيقول:

- طلب غريب، شغل إيه ده اللي عايز تروح تصور ميتين وتسجل صوتهم! 

يقاطعه (أدهم): - هتعرف تخدمني وتأكد إنك ها تبقى عملت لي خدمة كبيرة. 

- يا ابني مش حكاية خدمة، أنا بس مستغرب، أنا عارف إن قلبك ميت بس مش للدرجة دي، إذا كان إحنا وإيدينا في الشغلانة ليل نهار لما حد بيموت قدامنا بنفضل وقت طويل مرعوبين، عمومًا تعالي صور اللي انت عايزه، إحنا معندناش أكتر من العيانين اللي بيموتوا كل ساعة. 

يرد (أدهم) وقد اعترت صوته فرحة مفاجئة: - مش عارف أقولك إيه يا أبو سلم. 

- عدي عليا النهارده بليل هخليك تصور عمك (حسان) يا دوب تلحقه، هما طلعوه من العناية وسابوه يطلع في الروح في الوسطية، تعالى صوره براحتك، على الساعة 2 بليل هستناك. 

أغلق (أدهم) الهاتف ودخل إلى غرفته، وقد امتلأ وجهه الحماس المغامرة الليلة، رجع إلى مكتبه وبدأ بالعمل على اللعبة مرة أخرى، انهمك في كتابة الأكواد التي منها سيقوم بتطوير اللعبة تطويرًا مرعبًا، فلقد قفزت في عقل (أدهم) فكرة شيطانية، قرر أن يضيف بعض الصور الحقيقية فعلًا إلى اللعبة، سيقوم بتصوير لحظات موت واقعي وإضافة صورته إلى اللعبة ثم يقوم بتسجيل صوته وهو ينازع سكرات خروج الروح، مر الوقت سريعًا وهو منهمك في اللعبة، كان ميعاده مع (إسلام) قد اقترب، فقام مسرعًا بتجهيز الكاميرا الخاصة به وخرج من غرفته يطمئن على أخته، فوجدها قد نامت وهي تشاهد التليفزيون، فقام بتغطيتها ثم انطلق إلى المستشفى، وحين وصل اتصل بـــــ (إسلام): 

- أنا قدام الباب يا (إسلام).

- طيب ادخل عادي واحجز طوارئ واطلع الدور اللي فوق. 

فعل (أدهم) ما طلبه منه (إسلام) وصعد إلى الطابق العلوي من المستشفى وجلس ينتظر (إسلام).. كان الجو هادئًا تمامًا، لا أحد يمر، تختلط أصوات أنين المرضى في الغرف المجاورة مع أصوات المكيفات، قد تعطلت من قبل أن تأتي إلى المستشفى بربع قرن، ولكنها أضافت إزعاجًا يشعر منه المريض أن الحر أرحم من المبيت في ضيافة هواء تلك المكيفات، لم يكن (أدهم) يشعر بالرعب مما هو مقدم عليه، فلقد سيطرت فكرة الفوز في اللعبة عليه مهما كانت الظروف، كانت عيناه تبحثان في المكان شرقًا وغربًا لربما قد يرى ما يحتاجه في اللعبة ليضفي عليها طابع الرعب الواقعي، الشرود قد بات واضحًا على وجهه حتى وصل إليه (إسلام) فاستقبله (أدهم) قائلًا: 

- مش عارف أشكرك ازاي والله يا (إسلام). 

- ولا حاجة، انت تطلع تخلص اللي عايز تعمله، معاك وقت لحد الفجر، أنا هقفل عليك من بره وعمك (حسان) ده خلاص الكانسر وصل قلبه وقدامه ساعات، خلص ورن عليا آجي افتح لك. 

كانوا قد وصلوا إلى غرفة مكتوب عليها غرفة رقم 306 الرعاية الوسطية، فتح (إسلام) باب الغرفة ثم التفت حوله ليرى إن كان أحد يراهما ثم أدخل (أدهم) بسرعة وأغلق عليه الباب ثم رحل. 

حكاية قديمة لابد من ذكرها.. 

في زمان ليس ببعيد كان جبل المقطم هو مثوى لموتى أهالي مصر، فهو مليء بعظام ذويهم واعتادوا أن يتناوبوا الزيارة في أوقات مختلفة بين النهار والليل، إلى أن وقعت حادثة أدركوا بعدها أن الجبل لم يعد يرغب في احتضان موتاهم بعد، فقد خرج تاجر يومًا على حماره قاصدًا سوق القصبة بمصر القديمة مارًا بجبل المقطم، وقد اعتاد هذا الرجل أن يسلك هذا الطريق المختصر وأن يصطحب معه ابنته الصغيرة، وحين قارب الليل أن يرخي سدوله على الجبل، ظهرت سيدة عجوز فجأة، اعترضت طريق التاجر وابنته، كانت عجوزًا ملتحفة بالسواد، محنية الظهر، لا يرى منها أي ملامح في ظلمة الليل، اقتربت من التاجر سائلة إياه عن طعام، ارتعد الرجل من مظهر السيدة العجوز، ونزل عن حماره محاولًا تغيير مساره كي يبتعد عنها، فلقد أدرك بفطرته أنها ليست من البشر، إلا أنها أدركت أنه سيهرب، فاقتربت منه سريعًا ثم اختطفت ابنته وهربت بين سهول المقطم، لهث الرجل وراء العجوز كي يلحق بها لكنه لم يجد لها أي أثر، وكأنها اختفت في لحظتها، ظل صراخ ابنة التاجر يدوي بين سهول المقطم، مع ضحكات تلك العجوز.

 لمح التاجر حركة ناحية مقابر المقطم، كانت العجوز تقفز بين القبور إلى أن اختفى أثرها تمامًا، سقط التاجر مغشيًا عليه، لم يستفق إلا مع صباح اليوم التالي، استفاق سريعًا وأخذ يصدح بالصراخ على ابنته، ويبحث عنها بين سهول المقطم لكن لا أثر، خارت عزيمة التاجر وانتهى به الأمر وهو يجري بين الناس طلبًا للاستغاثة والبحث عن ابنته الصغيرة، علم الأهالي ما جرى للتاجر المسكين، فقرروا أن يبحثوا عن الفتاة، وظلوا يتناوبون الليل مع النهار، يبحثون عن الفتاة بين دروب المقطم، لكن بلا جدوى، لم يعثروا للفتاة ولا العجوز الغريب على أي أثر، ولا حتى مسير أقدامهم على تراب المقطم، سيطر فقدان الأمل على نفوس الأهالي، وانتشرت حكاية العجوز الخاطفة للفتاة، ورأى حكماء المحروسة وقتها أن يمنعوا الدفن والزيارة في أوقات متأخرة من الليل في جبل المقطم، حاول الأهالي أن يضعوا تفسيرًا يرضي نفوسهم عن واقعة العجوز وابنة التاجر المسكين، لكن لم يصل أحد إلى تفسير ما جرى إلا أن كثيرًا من الأهالي اعتبروه حادث اختطافي قد بالغ التاجر في وصفه، وقبل أن تمحى تلك الواقعة من الذاكرة الجمعية لأهالي المحروسة، جاء رجل في ركب من بلاد الشام يدعي (شاهين).. يظهر عليه الفقر حاملًا بين يديه راية بيضاء يمشي بها بين الناس، مبتسمًا دائمًا ينظر إلى رايته ويضحك، أصبح الأهالي يحبونه لجمال مظهره وطيبة أخلاقه وأطلقوا عليه اسم (الدرويش شاهين) نسبة إلى حاله الذي يشبه أحوال (دراويش المحروسة) في تلك الحقبة، لم يكن يزعجهم منه إلا سؤاله المتكرر الذي كان يسأله دومًا، كان يقول: "أين الصخرة التي اختبأ وراءها سيدنا موسي من عسكر فرعون، قد سمعت أنها في جبل المقطم وجئت من الشام لزيارتها؟" 

لم يكن الأهالي في السوق يعلمون مكان تلك الصخرة التي يسأل عنها (الدرويش شاهين) إلا القلائل منهم، من كان يعلم عن تلك الصخرة وأنها خلف المقابر، ومع تكرار سؤال (الدرويش شاهين) عن تلك الصخرة، أجابه أحدهم عن مكانها إلا أنه قد حذره من الصعود إلى الجبل في أوقات متأخرة وذكر له حكاية عجوز المقابر، ضحك (الدرويش شاهين) حينما سمع الحكاية، ولم يبد عليه أي علامة من  علامات الخوف، وأخذ رايته واتجه إلى المقطم قاصدًا الصخرة التي تقع خلف مقابر المقطم، ولم تجد محاولات الأهالي في منعه من الصعود إلى هناك، وكان رده عليهم: "إنها (القطربة) وأنا لا أخاف (القطرية)." 

لم يفهم الأهالي كلام (الدرويش شاهين) فاعتبروه لغوًا من أحوال (الدراويش).. غاب (الدرويش) عن الأنظار ومع بزوغ نور الفجر، ظهر ممسكًا بالفتاة الصغيرة ابنة التاجر في يد واليد الأخرى ماسكًا رايته البيضاء التي يحملها دائمًا، فرح الأهالي برجوع الفتاة، واستقبلوا صنيع (الدرويش شاهين) بالولاية والبركة، لكن الكثير منهم يقتله فضوله، يريدون أن يعلموا أين كانت الفتاة، وكيف لهذا (الدرويش) أن يأتي بها بكل سهولة بعدما أنهكتنا أقدامنا في البحث عنها؟ فما كان جواب (الدرويش شاهين) إلا أن قال: "القطربة هي عجوز من الجن تسكن الوادي قبلكم، لكنني لا أخاف القطربة." 

وسكت ولم يفصح عن شيء، كما أن الفتاة الصغيرة العائدة كانت خرساء لا تتكلم وقد رضي أهلها بتلك العلة فيها وحمدوا الله على أنها قد ردت إليهم، منذ ذلك الحين جلس (الدرويش شاهين) على عرش قلوب أهالي المحروسة جميعًا، فأخذت الوفود تتناوب الزيارة لأخذ البركة منه، وقد بنى له الأهالي خيمة وعلقت الراية البيضاء على رأسها في جبل المقطم، وكانت ترى من أي مكان في القاهرة، ولم يعد يسمع بالعجوز (القطرية) مرة أخرى منذ أن سكن (الدرويش شاهين) المقطم، حدثت القصة عام 433 هجرية ويشفع لها أنها قد ذكرت على لسان فرسان الحكاية والتأريخ، أمراء دولة الخيال (الشيخ تقي الدين المقريزي) وآخرين. 

غرفة 306 الرعاية الوسطية.. 

الغرفة مظلمة، باردة، رائحة البنج تملؤها، تحتوي على فراشين أحدهما فارغ والآخر يرقد عليه عم (حسان).. كانت الغرفة شديدة الظلام، لكن (أدهم) تحسس طريقه على ضوء أجهزة التنفس الصناعي المتصلة بجسد عم (حسان).. يقترب (أدهم) بخطوات ثقيلة من عم (حسان).. يرى أجهزة كثيرة متصلة بجسده الذي برزت عظامه من الضعف، تخرج من الأجهزة خراطيم شفافة متصلة بفمه وأسلاك متصلة بصدره لقياس نبضه، ساهمت تلك الأجهزة في إخفاء ملامح وجه عم (حسان) الشاحب، لكنها لم تخفي عينيه المنتفختين وشعره الأشعث، ولون جلده الذي أصبح أصفرًا كالأموات، لوهلة اعتقد (أدهم) أنه يرى رجلًا ميتًا، لكن سرعان ما تمعن النظر إلى صدره وهو يعلو ويهبط ببطء كما أن شاشات الأجهزة تظهر أن قلب (حسان) ما زال ينبض، أقترب (أدهم) من وجه (حسان) ثم بدأ في التقاط الصور له وهو نائم، ظل يكرر الصور لكن من زوايا مختلفة، تذكر (أدهم) أن يضع هاتفه المحمول بجانب عم (حسان) على وضع التسجيل كي يسجل أي صوت يخرج من (حسان).. مر وقت ليس بطويل ولم يحدث أي تغيير في وضعية عم (حسان).. فقط نفس يدخل ويخرج عبر الأجهزة، لا صوت إلا تلك الأصوات المزعجة التي تصدر عن الأجهزة المتصلة بـــــ (حسان).. علامات الإزعاج قد ظهرت على وجه (أدهم).. فتلك الأصوات أمست لا تروق له، قد خدرت فيه قدرته على التحمل والانتظار، مرت ساعة وظل عم (حسان) على نفس وضعه نائمًا بلا حركة، اكتسى وجه (أدهم) علامات الإزعاج والضجر ولم يتبق في وجهه إلا موضع لعلامات تحفز بدأت تزحف على ملامحه فاستسلم لها، عيناه كانتا جامدتين كعيني الموتى، صوت الغضب يتسرب من تحت أسنانه، فوقف فجأة واقترب من عم (حسان) ونظر إليه ثم تكلم بصوت يحمل رنة من العصبية قائلًا: 

- انت أكيد متألم يا عم (حسان).. (إسلام) قال إنك هتموت الصبح، هتفرق إيه لو مت دلوقتي؟ ولا حاجة صح؟ بالعكس هترتاح من الألم إلى انت أكيد حاسس بيه. 

هجم (أدهم) على عم (حسان) ثم قام بنزع كل الخراطيم من فمه ومن على صدره، فخرجت بعض قطرات الدم من فمه، نظر (أدهم) إليه وأدرك أنها اللحظات الأخيرة، فرجع مسرعًا إلى موضع الكاميرا واستأنف التصوير مرة أخرى، فجأة شهق عم (حسان) وفتح عينيه ونظر إلى (أدهم)، ثم بدأ في تحريك يديه بتلويحات تشبه تلويحات الغريق حين ينقطع عنه الأكسجين، كانت لحظة عاقر يمر بها عم (حسان).. ظل (أدهم) محتفظًا بوضعه في التصوير، كان يبتسم ويحاول تقريب الكاميرا من (حسان) أكثر، فلقد تأكد (أدهم) أن هذا هو ما يريده تمامًا، تلك الحركات المريبة التي تسبق الموت، تلك الأصوات الأخيرة التي تخرج من عم (حسان) وهي تحمل معها آخر الأنفاس، حشرجة صوته وهو يختنق، حنجرته وهي تحاول أن تحتفظ بآخر صوت فيها، لون وجهه حين يتحول إلى الأزرق الغامق، صدره وهو يرتفع وينخفض محاولًا أن يلتقط نفسًا يساعده على البقاء، مر أكثر من خمس دقائق، كانت بالنسبة لـــ (أدهم) دقائق مثالية، ظلت فيها الابتسامة الصامتة مرسومة على وجهه، سكن عم (حسان) أخيرًا وانخفض صدره ولم يرتفع مرة أخرى وشخصت عيناه ناظرة إلى أعلى بلا حركة، اقترب منه (أدهم) ثم نظر إليه ليتأكد أنه مات، ثم أتي بعدسة الكاميرا ووجهها إلى وجهه وعاد لتصوير ملامح ما بعد الموت بلحظات، انتهى (أدهم) من التصوير ثم أعاد كل الخراطيم إلى وجهه كما كانت عليه وقام بمسح بقايا الدم من على وجهه، ثم أعاد توصيل الأجهزة بالكهرباء وأعاد كل شيء كما كان عليه، وأقبل على عم (حسان) وأمسك يده وقبلها ثم رجع إلى حافة الفراش وهو يقول: 

- شكرًا يا عم (حسان).. أنا واثق إن المسابقة دي هكسبها بسببك، أصله صعب حد من المتقدمين يقدر يصور لحظات زي دي، ووعد مني لو كسبت المسابقة و(ندى) أختي عملت العملية واتبقى فلوس هعمل كولدير مية صدقة ونور على روحك، الله يرحمك يا عم (حسان).. الله يرحمك. 

التقط (أدهم) هاتفه المحمول من جانب عم (حسان) وأغلق التسجيل واحتفظ به ثم اتصل بـــــ (إسلام) كي يأتي ويفتح له الباب. 

- ها خلصت ولا إيه؟ 

أجاب بصوت منخفض: 

- خلصت أيوه تعالى افتح لي بسرعة. 

في أقل من دقيقة كان (إسلام) أمام غرفة 306 يفتح بابها لــــ (أدهم) وهو يسأله: 

- بقولك يا (أدهم).. ما حستش بأي حركة في الأوضة من برة؟ أصلي أتهيألي إني لمحت حد ناحية الأوضة بس ما اتحققتش منه، اتهيألي إنه طالع يبص على عم (حسان) من ورا القزاز يشوفه مات ولا لسة. نظر (أدهم) إليه مستغربًا وظهرت عليه علامات الارتباك، ثم حاول أن يخفي تلك النظرة خشية أن يلاحظ (إسلام) عليه أي تغيير، فيعلم ما فعله مع عم (حسان) وحاول أن يختصر الحديث معه وهم في طريقهم من الغرفة إلى خارج المستشفى: 

- لا ماحسيتش بأي حد، وبعدين لو حد جه ما أكيد هيدخل، أمال هيعرف إنه مات إزاي؟ 

أجاب (إسلام) مستهزئًا: 

- من الأجهزة اللي متوصلة بيه يا ناصح، هيشوفها واضحة من ورا القزاز طبعًا. 

هز (أدهم) راسه كحيلة دفاعية كي يتظاهر بعدم الاهتمام ويخفي ارتباكه ثم شكر (إسلام) وغادر المستشفى، ولم يكن يبقى على شروق الشمس إلا ساعات قليلة، ظل (أدهم) يسأل نفسه، إن كان هناك رجل شاهدني فعلًا، فلماذا لم يدخل الغرفة بالرغم من أنه علم أن (حسان) قد مات من خلال الأجهزة المتصلة؟ هل يمكن أن تكون الأجهزة تعطلت مثلًا، و(حسان) لم يكن قد مات؟ كلا لقد رأيت لحظات موته وسجلتها صوتًا وصورة، ربما قد يهذي (إسلام).. وصل (أدهم) إلى بيته، فألقي نظرة على أخته وكانت نائمة تحتضن صورة أبيها وأمها، ثم ذهب إلى غرفته وألقى بالكاميرا على مكتبه، ثم ألقى بجسده على فراشه وغط في نوم عميق، مرت ساعات وفات النهار وقبل غروب الشمس بقليل استيقظ (أدهم) من نومه وعلى وجهه آثار معركة كانت تدور رحاها بين عقله الباطن وعقله الواعي في ساحة أحلامه، مسح وجهه بيده ثم اعتدل وقام ليطمئن على أخته (ندى) ويذكرها بميعاد الأدوية الخاصة بها، خرج من غرفته متجهًا إلى غرفة أخته، كان بابها مغلقًا، فطرق بابها وانتظرها لتفتح، لم تفتح (ندى) الباب، فدخل (أدهم) مسرعًا ووجد الغرفة فارغة، لم تكن أخته فيها، انطلق (أدهم) يبحث في أنحاء الشقة عن (ندى) ويناديها. لم تكن (ندى) في أي غرفة من غرف الشقة، التقط هاتفه المحمول وحاول الاتصال بها، لكن المحمول الخاص بــــــ (ندى) كان مغلقًا، ارتجف (أدهم) وارتعشت يداه، وخفق قلبه وتسارعت نبضاته، الفزع يسيطر على عقله ويعطله عن التفكير، يحاول أن يقاوم فكرة أن أخته قد أصابتها مصيبة، نوبة من الصداع تشن هجومها على عقله، تتدفق الصور على ذاكرته، يرى فيها (ندى) المريضة وهي تحاول أن تستنجد به، لكن صوتها المحبوس بين ضلوعها لا يستطيع أن ينطلق كي تستغيث، صور مختلطة لـــ (حسان) وهو ينازع الموت تسيطر على عقله وتفرض سطوتها بقوة، يحاول أن يتغلب على رجفته، ثم يتكلم بصوت مسموع محدثا نفسه ، كي يطمئن. 

- أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، ماحصلهاش حاجة وحشة إن شاء الله، تلاقيها نزلت تجيب حاجة محتاجاها من تحت وهترجع. 

قال هذه الجملة وهو يحاول أن يرتدي قميصه، ثم نزل من الشقة ليبحث عن (ندى).. توجه مباشرة إلى (الكشك) المقابل لمسكنه، يسأل (عبده) صاحب (الكشك) عن (ندى) قائلًا: 

- (عبده).. ما شوفتش (ندى) أختي النهارده؟ ما عديتش من قدامك من شوية كده؟ 

ينظر إليه في دهشة من سؤاله، ثم يقول:

 - لا يا (أدهم) ما شوفتهاش والله، خير في إيه؟ 

- رجعت من مشوار الصبح، كانت موجودة وأول ما صحيت ملقيتهاش. 

- طيب اهدا يا عم، ممكن تكون راحت لحد من صحابها وما رضيتش تصحيك تقولك. 

تنهد (أدهم) ثم بلع ريقه ودار بعينيه على الشارع كله لعله يلمح (ندى) وهي قادمة، فقاطعه (عبده) بسؤاله: 

- انت مالك قلقان كده ليه يا عم (أدهم)؟ أجاب (أدهم) وهو ممتعض لسؤاله: 

- يا (عبده) ما انت عارف إن (ندى) عيانة وما بتعرفش تتكلم من ساعة الحادثة، خصوصًا إني بكلمها على الموبايل لقيته مقفول وهي مش متعودة تقفله خالص، هو ده إلى مقلقني عليها. 

نظر إليه (عبده) نظرة شفقة مصطنعة ثم تحرك وهو يقول: 

- دقيقة بس امشي الزبون ده واجيلك، طب ما تجرب تكلمها على الموبايل تاني. 

انتبه (أدهم) ووضع يده في جيبه كي يخرج هاتفه المحمول ثم قال: 

- يا دي النيلة، أنا من لهفتي نسيت التليفون فوق، (عبده) أنا هطلع أجيب التليفون، عينك على الشارع لو لمحتها جاية اندهلي. 

خرج (عبده) من (الكشك) مسرعًا، يقول:

- اتقل يا ابني أنا طالع معاك. لحق (عبده) بــــــ (أدهم) على باب العمارة وحينما وصلا إلى الشقة كان الباب مفتوحًا، نظر (أدهم) إلى الباب قائلًا: 

- نسيت اقفل الباب وانا نازل. 

قاطعه (عبده): - ما يمكن أختك جت ولا حاجة، خش شوفها. نظر إليه (أدهم) في سخرية من كلامه ثم قال: - هتيجي ازاي وإحنا مزروعين قدام العمارة وما طلعتش قصادنا. 

وصل (أدهم) إلى غرفته بينما (عبده) انتظره في الصالة، لم يطل انتظار (عبده) كثيرًا، فلقد سمع صرخة (أدهم) من داخل غرفته، فقام مسرعًا وحين وصل إليه توقف أمامه متجمدًا ولم يقدر على الكلام، كان (أدهم) يقف بجانب فراشه ممسكًا بجلد وردي اللون يشبه جلود البشر، لكنه أقسى من جلد البشر وعلى أحد جوانبه كتابة باللون الأحمر، كان (أدهم) ممسكًا بالجلد يحاول أن يبتلع ريقه وعيناه ينهمر منها الدموع ووجهه صار أصفرًا، ويداه ترتجفان وهو يمسك بالجلد، كان الصمت قد أطبق على الغرفة لفترة قصيرة، حتى قطع هذا الصمت (عبده) وهو يتكلم

- الشغل ده شغل جن يا (أدهم).. أختك شكلها اتخطفت من الجن. شهق (أدهم) ورمى الجلد من يده ثم نظر إلى (عبده) وقال:

- انت بتقول إيه يا (عبده)؟ انت مجنون! حاول (عبده) أن يقترب بحذر من (أدهم) ثم نظر إلى الجلد، وقال: 

- الكتابة اللي موجودة على ضهر الجلد دي مكتوبة بالدم وشكلها سرياني. 

كانت أوصال (أدهم) ترتجف وهو يسمع كلام (عبده).. فبلع ريقه ثم رد بصوت مرتعش: 

- والجن هيخطف أختي ليه؟ تحرك (عبده) إلى خارج الغرفة وهو يقول:

- شكلكو انتو الجوز أذيتو حد من الجن، انت عملت إيه انت واختك؟ تلعثم (أدهم) وظهر على لسانه ثقل في الرد:

- ما عملتش حاجة، أنا هبلغ الحكومة إنها اتخطفت، وهي تتصرف. 

- الحكومة هتدور عليها بعد 24 ساعة، بعدين انت مش شايف الجلد اللي قدامك ده، في حاجة غريبة، بس أنا عندي اللي هيحل معانا الحكاية دي ولو مجابش نتيجة نبلغ الحكومة. 

أخرج (عبده) هاتفه المحمول وبدأ في تصوير الجلد صورة واضحة ثم اتصل بأحدهم، وحكى له ما حدث وأنهى كلامه بجملة: "هبعت الصور لحضرتك حالًا يا مولانا." أرسل (عبده) الصور ثم عاود الاتصال بنفس الشخص 

"اختزال ستينوغرافي، كتابة بالاختزال، لا يا مولانا أول مرة اسمع عنها، ماشي يا مولانا تمام الصبح هستني حضرتك على القهوة اللي في ضهر المقام، في حفظ الله يا مولانا." 

كان (أدهم) يقف شاخص البصر متلهفًا لأي كلمة يسمعها من (عبده) فقال مسرعًا - مين اللي بتكلمه ده، أنا مش فاهم حاجة، عرفت منه (ندى) فين؟ 

- ده مولانا كلنا وقال إن ده شغل جن زي ما قولتلك، إحنا معادنا معاه بكرة بعد الفجر، هو بيقول دي رسالة مكتوبة بطريقة الاختزال الستينوغرافي، وهيفهمنا بكرة كل حاجة، مارضيش يقول حاجة في التليفون، روح بس هات حاجة نشيل فيها الجلد له وانزل اقعد معايا في الكشك والصبح نروح له وانا عارف إنه هيرجع (ندى). 

مقهى بالحسين الساعة السادسة صباحًا 

يصل (أدهم) و(عبده) إلى المقهى، ينتظران (الشيخ بدير الجمال).. تمر ساعة ثم يصل (الشيخ بدير الجمال).. يقوم (عبده) مسرعًا كي يستقبله بينما جلس (أدهم) مكانه يتفحصه، كان (الشيخ بدير) رجلًا ضيف البنية يرتدي بذلة بنية ونظارة سوداء كبيرة، يحاول أن يخفي تحتها خطوات واضحة لزحف الشيخوخة، وصل إلى المقهى وسحب له (عبده) كرسيًا ثم جلس وقال: 

- فين الجلد يا أستاذ (أدهم)؟ وريني. 

خلع (الشيخ بدير) نظارته وألقى بها على الطاولة ثم أخرج من جيبه منديلًا أبيض اللون، ومسك الجلد ثم وجه المنديل ناحية الشمس وظل رافعًا يده بالمنديل أمام الشمس، أكثر من خمس دقائق، كانت علامات الدهشة ترتسم على وجه (أدهم) بينما علامات الإعجاب قد احتلت وجهه (عبده).. أنزل (الشيخ بدير) يده بالمنديل ثم رماه على وجه (أدهم) مرة واحدة، ارتعد (أدهم) ثم رجع إلى الخلف ونزع المنديل من على وجهه وألقى به على الطاولة ثم قال بامتعاض: 

- إيه ده يا (عبده) في إيه؟ نظر إليه (الشيخ بدير) وقال بلهجة آمرة: 

- شم يا ابني كويس، قولي شامم إيه في المنديل؟: أخذ (عبده) المنديل من على الطاولة ثم أعطاه لــــــ (أدهم) وهو يقول: 

- أسمع كلام سيدك (بدير) يا (أدهم).. خد شم المنديل. 

رضخ (أدهم) لطلبهما ثم أخذ المنديل من يد (عبده) ويداه ترتعشان بشدة ثم قربه من وجهه ببطء وفجأة اقتحمت ملامحه رهبة ممزوجة بقلق ثم صاح بصوت عال: 

- دي ريحة (ندى).. أنا متأكد، أنا جايبلها البرفان ده بنفسي في عيد ميلادها اللي فات. 

نظر (أدهم) إلى الشيخ فوجده ممسكًا بالجلد غير ملتفت إليهما وقبل أن يكمل (أدهم) كلامه، تكلم وهو ينظر إلى الجلد ويقرأ منه: 

- نحن قبيلة (حسان).. شاهدنا ما فعلته، قد أفزعتنا، وأفزعت صديقنا (حسان).. نفزعك الآن، كما فعلت بنا، نفزعك الآن، كما فعلت بــــــ (حسان).. ستبقى معنا في الجحيم، أختك. 

لم يقدر (أدهم) أن ينزع نفسه من صدره، فشعر بالاختناق وبدأ في السعال المستمر حتى لحقه صبي المقهى بكوب من الماء، وحين عاد إلى وضعه الطبيعي، بدأ يحكي ما حدث في غرفة 306 ثم اقترب من (الشيخ بدير) وبدأ في تقبيل يده يتوسل إليه كي ينقذ أخته (ندى).. 

سكت (الشيخ بدير) قليلًا وأخذ رشفة من كوب الشاي الذي أمامه ثم قال: 

- انت اقتحمت حرمة اللقاء الأول بين عالم الحياة وعالم الموت، كسرت الحاجز، غرضك كان أكبر من طاقتهم، فزعت الجيران، تعديت حرمة المكان. 

نظر إليه (أدهم) ممتعضًا لكلامه وقال: 

- إيه التعدي في إني أصور حد مريض بيموت، وإيه الغريب في غرفة رعاية في مستشفى؟ 

- يا ابني كل مكان وليه حراسه، والمكان ده مات فيه ناس كتير قبل (حسان) وكل ميت سايب ذكراه في مكان موته، بص يا ابني أنا هعمل محاولة كده لو نفعت، أختك هترجع ولو ما نفعتش يبقى عوضك على الله في البنت الغلبانة اللي هتروح ضحية بسبب فعلتك. 

تنهد (الشيخ بدير الجمال) ثم أخذ رشفة أخرى من كوب الشاي وعاد يقول: 

- إحنا مفيش قدامنا غير حل واحد، طلسم الدرويش شاهين. نظر (أدهم) إلى (عبده) في دهشة ثم نظر إلى (الشيخ بدير) 

- مين (الدرويش شاهين) ده ويعني إيه طلسم (الدرويش شاهين)؟ أجاب (الشيخ بدير) بضحكة مغلفة بسخرية: 

- مش عيب تبقى من سكان المقطم ومتعرفش سيدك (الدرويش شاهين).. الراجل ده كان ساكن عند جبل المقطم وراك كده، يجي من مية سنة وأكتر، بس هو اللي هيحل أختك من إيدين الجن لأن زمان أي بنت كانت تتخطف وماحدش يلاقي أثرها، كان (الدرويش شاهين) هو اللي بيرجعها، الراجل البركة ده الجن بتخاف منه أو بتحبه، ربك أعلم، إحنا بقى هنطلسم باسمه وأما نشوف، انت تروح بيتك حالًا تجيب كل الصور اللي صورتها لـــــ (حسان).. وكل التسجيلات وأي حاجة ليها علاقة بــــــ (حسان).. مش عايزك تسيب ولا صورة، جيب كل حاجة، وتعلالي المغرب في القرافة القديمة في المقطم، بعد مقابر الإمام الشافعي بشوية، هتلاقي (عبده) عارفها، يلا توكلوا. 

انطلق (أدهم) و(عبده) عائدين إلى مسكنهما، وما أن وصلا إلى العمارة، طلب (أدهم) من (عبده) أن ينتظره في (الكشك) حتى يصعد كي يأتي بالكاميرا وينزل مسرعًا، صعد (أدهم) إلى شقته، ثم دخل إلى غرفته وأمسك بالكاميرا، دفعه فضوله كي يرى الصور التي صورها لــــــ (حسان).. أخذ يقلب في الصور صورة تلو الأخرى حتى وصل إلى صورة توقف عندها وبدأ يدقق بها، لمح (أدهم) صورة كانت تظهر باب الغرفة وخلفه أحدهم وهو يتلصص من خلف الزجاج، يراقب (أدهم) وما يفعله بــــــ (حسان).. لكن (أدهم) لم يلاحظ ذلك الكيان المراقب وقت التقاط الصورة، ارتسمت على وجه (أدهم) تعابير مختلطة ما بين الخوف والتعجب، أخذ يبحث في باقي الصور على صورة أخرى تظهر هذا الكيان المراقب في شكل أوضح، وبالفعل وجد صورًا كثيرة يظهر فيها الرجل وهو يقف بالطريقة نفسها خلف الزجاج، ملامحه ليست ظاهرة من ظلمة الغرفة، ولم يكن فلاش الكاميرا يغطي تلك المنطقة، بدأ الشحوب يتسلل إلى وجه (أدهم) والخوف يسري في أوصاله من هذا الكيان، كان (أدهم) خائفًا من هذا المجهول، ظنًا منه أنه قد رآه وهو يقتل (حسان).. ابتلع ريقه بصعوية وبدأ يحدث نفسه قائلًا: 

- لو كان شافني ليه ما دخلش وحاول ينقذه وسابني أكمل تصوير؟ هل ده حارس من حراس المكان زي ما قال (الشيخ بدير)؟ ولا ده من قبيلة (حسان) اللي خطفت (ندى)؟ ولا إيه ولا إيه؟ أنا خلاص تعبت يا رب، ومحتاجك تنقذني وتنقذ أختى. 

- ها وبعدين؟

- ها إيه رأي حضرتك في اللي اتكتب كله؟ 

- جميل ولو إنك مزود شوية كلام من عندك، لكن حلو، والأحلى إنك غيرت أسمي. 

- ده شرطك الأساسي وأنا احترمته ومتخافش اللقاء اللي تم بينا هيفضل سر محدش هيعرفه، بس في أسئلة كتير لازم أنا أعرفها منك وأوعدك إني مش هنشرها لو حبيت. 

- اتفضل يا سيدي، أنا عارف إني مش هخلص من زنك يا (جمال يا علام).. الفضول هيقتلك. 

- مش فضول، أبدًا والله، هو بس شغلانة الصحافة بتربي جوانا شغف للمعرفة. 

- يا عم من غير سفسطة وحياة أبوك، أسأل براحتك بس اوعي تكون بتسجلي يلاه. 

- انت ليه قتلت عم (حسان) مع إنك كنت عارف إنه ميت ميت، ماكنتش قادر تستني قضا ربنا ينفذ لوحده يعني؟ 

- أديك قولتها ميت ميت، لكن رقدته المطولة دي خلت الناس تصدق فيه أكتر، كان لازم نخلص منه عشان نعرف ناكل عيش، وجود (حسان) في الحياة حتى وهو راقد بقى بيهدد عرش كل اللي يعرفوه، وده كان طلب المعلمين كلهم. 

- أيوه بس انت فهمتني إنك كنت تلميذه أو دراعه اليمين بمعني أوضح. 

- وأنا قصرت معاه في إيه؟ أنا دخلته أحسن مستشفى في المقطم وصرفت عليه 6 شهور علاج، وكمان ريحته من العذاب اللي كان حاسس بيه، عملتله خدمة زي ما خدماته كانت مغرقاني. 

- طيب و(أدهم) و(ندى)؟ 

- أهو (أدهم) ده الله يخرب بيته، كان هيوقعني في المعلمين الكبار، أصل أنا بعد ما اديت (حسان) الحقنة اللي هتجيب أجله، خرجت من الأوضه وانا نازل على السلم، لقيت الواد ده ومعاه التمرجي رايحين ناحية الأوضه والواد كان شايل شنطة ورا ضهره، كل اللي جه في دماغي ساعتها إن حد تاني طالع يموت (حسان) ويقبض عليه، وإن في خبص في الحكاية والمعلمين مش واثقين فيا، استنيته لما دخل وفضلت واقف ورا القزاز، فاتت ساعة والواد عمال يصوره، أنا قولت هما المعلمين عايزين يتأكدوا من موته للدرجة دي فيبعتو حد يصوره، أي نعم (حسان) سره باتع وكان مخوف كل العالم دي ومحدش يتجاسر من منطقته، بس مش للدرجة دي، كان (حسان) لسه فيه الروح، فجأة نور الكاميرا لقيته في عيني، الواد صورني من غير ما ياخد باله وبعد شوية كده لقيت الواد (أدهم) هجم على (حسان) وخلع الخراطيم اللي متوصله بيه، وفضل يصوره وهو بينازع لحد ما مات، كده الواد بقى معاه دليل إن هو اللي قتل (حسان) وهيقطع عليا المصلحة لو المعلمين عرفوا وهيتصيت على حسي وأنا هاطلع بالذيل في الآخر، ولا هاخد مكان وسطيهم ولا حاجة، ومش بس كده دول يموتوني لو عرفوا إني مانفذتش اتفاقي معاهم، خرج الواد وانا وراه، إن جيت للحق أنا كان ممكن أخش أقتله هو راخر بس كنت خايف يكون تبع عضمة تقيلة ولا حاجة، المهم فضلت ماشي وراه لحد ما وصل بيتهم، وساعتها عرفت كل حاجة عنه. 

- ثواني بس يا مولانا، انت عرفت كل حاجة عنه منين؟

- من الواد اللي في الكشك اللي قدامهم، الواد ده كان بيجيلي هو وأمه كتير، بعيد عنك أمه عايزه تجوزه ومش عارفه، شوف النصيب وحظنا الحلو وربك لما بيسبب الأسباب، الواد (أدهم) كان بيسيب نسخة من مفتاح بيتهم مع البأف بتاع الكشك ده، وبصغرة من عنيا الواد (عبده) سلم واداني المفتاح واتفقت معاه على خطف (ندى) وبقية الفيلم اللي انت كاتبه. 

- بس انت كنت تأكدت إن محدش من المعلمين بعته يقتل (حسان)؟ 

- اتأكدت طبعًا وعرفت إن آخره فاضي، بس كان لازم يتربى باردو وأجيب آخره. 

- عملت فيه إيه؟ 

- لما (أدهم) وصل القرافة أخدت منه الكاميرا وفهمته إن لو في عنده أي صور لــــ (حسان) وهو بيموت، أخته مش هترجع، وقلت له روح بيتكو وأختك هتجيلك الفجر. 

- طيب ما (ندى) أكيد هتحكي لأخوها إنك خطفتها انت و(عبده) والحكاية ما فيهاش قبائل جن ولا حاجة.

- يا ابني البت دي خارسة، غير إنها خارسة، أنا اديتها حقنة مسح يا برنس. 

- معلش إيه حقنة المسح دي؟ 

- دي حقنة بنجيبها مهربة من بره بنديها لأي حد عايزينه ينسي آخر 48 ساعة في حياته، ولو عايز تعرف اسمها أقولهولك بس مش هيرضو ينشروا التحقيق بتاعك، بص هي أول حرفين منها دي إس. 

- طيب ما بدل المجهود ده كله، ما كنت أخدت من (أدهم) الكاميرا ومسحت الصور وخلاص من غير ما تخطف (ندى) وتسيب له جلد في البيت وتتعب نفسك التعب ده كله. 

- انت شكلك صغير ما بتفهمش في الناس، اسمع من عمك بقى، لازم (أدهم) ده كان يصدق إن الحكاية جن وعفاريت، عشان ما يدورش كتير، كان لازم أخلي إيمانه بيا فوق إيمانه بذكائه، هلخصلك شغلانتي في كلمتين، أنا بعتمد على ذكائك لما يستغبى مش بعتمد على غبائك، أنا بعتمد على علمك مش جهلك. 

- مش مقتنع الصراحة يا مولانا. 

- يا ابني أنا إيه يضمن لي إن بعد ما تهدا الحكاية، الواد دماغه تشتغل ويفهم اللي حصل ويكون عنده نسخ من الصور يجي يساومني بيها ويقرفني والحكاية توصل للمعلمين وينزلوني من على الطرابيزة، إنما طول ما هو فاهم إن فيها جن وعفاريت هيفضل خايف 

- هما مين المعلمين دول؟ 

- كل شغلانة ليها كبار مشغلينها، والكبار، وهما اللي بيأمروا والصغيرين اللي زيي ينفذوا، بس (حسان) كان كبيرهم وكلهم كانوا عايزين يخلصوا منه لأن زي ما قولتلك رقدته أما طالت في المستشفى، الناس صدقت في كرامته أكتر وإيمانهم بيه زاد أكتر وأكتر مع إنه نصاب ابن ستين نصاب، بس النصابين الكبار كانوا عايزين ياكلوا عيش بقى ووعدوني إني هاخد مكانه. 

- سؤال أخير يا مولانا، إيه كتابة الاختزال دي؟

- يا عم دور بنفسك بقى، ده انت رغاي أوي. 

تم كتابة هذه الرواية بعد لقائي مع أحد الدجالين، لكنني نشرتها كاملة بالإضافة إلى حواري معه، فلقد كنت بالفعل أسجل، لم أتحر الصدق والكذب في كلامه، أسند إليك هذه المهمة، أنا أثق بميزانك الذي تزن به الأمور، أثق بشغفك بحثًا عن الحقيقة، أتمنى أن تجدها قريبًا، بين دروب المقطم، في دار (الدرويش شاهين) إن كان حقيقيًا. 

ملحوظة قد تكون مهمة لك: 

بعدما تم نشر الرواية في الجريدة التي أعمل بها، لم يكن يبقى على إجازتي لقضاء شهر العسل الخاص بي إلا يومين، وقد اعتدت أثناء غيابي أن أتابع الأخبار التي تنشر في الجريدة يوميًا، ليس فضولًا إنما أردت أن أرى التهنئة الخاصة بي من أصدقائي بقسم التحرير، نشرت أم لم تنشر بعد، وأثناء بحثي في قسم المباركات، وقعت عيناي على صفحة الحوادث لمانشت عريض (القبض على دجال بمنطقة المقطم التهمة القتل العمد والنصب والاحتيال بعد سماع اعتراف مسجل له) 

شعرت وقتها براحة حينما علمت أنه هو الدجال الذي استلهمت منه روايتي، وأخيرًا تم القبض عليه وبعد أكثر من سنة من لقائي معه، لم ألتفت كثيرًا وقلبت تلك الصفحة لأرى التهنئة الخاصة بي، ويا لها من صدفة غريبة! لقد نشرت التهنئة.. يهنئ ويبارك قسم التحرير الصحفي الكاتب (جمال علام) وعروسه (ندى الألفي) على زواجهما ونتمنى لهما دوام السعادة والأفراح 

الصحفي والروائي / جمال علام

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا