أبو كف والجنية المعالجة
هذه القصة شغلت الرأي العام في مصر طوال شهر إبريل (1980) وما بعده، ذلك أن رجلاً يقوم بتشخيص الأمراض التي يعاني منها بعض الناس، ويصف لهم العلاج والدواء الذي يشفيهم ويريحهم من آلامهم، وهو الذي يكاد أن يكون أمياً، واسم هذا الرجل "عبد العزيز مسلم شديد أبو كف" وشهرته "أبو كف" وعمره ثلاثون سنة.
انقطع عن الدراسة وهو في الصف الثاني الإعدادي والتحقق بالقوات المسلحة، وفي عام (1966) أصابته شظية طائشة في العود الفقري أثناء حرب الاستنزاف على جبهة قناة السويس، وأسفرت الإصابة عن شلل في ساقيه، فترك القوات المسلحة وعاد إلى قريته ليعيش مقعداً مع والدته وأخوته.
ذات الجلباب الأبيض:
ذات ليلة، كان "أبو كف" يعاني من الضيق والأرق إذ فوجئ بامرأة ترتدي جلباباً أبيضاً وتلف رأسها بقطعة بيضاء، بدت المرأة في أول الأمر كأنهما صورة من الدخان مرسومة على الحائط. ثم لم تلبث تلك الصورة أن تجسدت وخطت ببطء نحو فراشه وقالت له:
"أنا الحاجة، سأشفيك من الشلل ولكن بشرط"، ولكن الفتى لم يرد لأن الرعب عقد لسانه، وتصبب العرق من جبينه وصدره حتى بلل ملابسه، ولكن المرأة كررت قولها ثانية، وأخبرته أنها جنية مؤمنة تمد له يد المساعدة، ثم تلاشت في الحائط الذي خرجت منه.
وخشى "أبو كف" أن يخبر أحداً من أفراد أسرته فيتهمونه بالجنون فطوى سره بين ضلوعه، وفي الليلة التالية عادت الحاجة مرة أخرى، وفي الليلة الثالثة سألها عن شرطها فأجابت أن عليه أن يقبل الزواج من ابنتها لأنها وحدها التي تستطيع إسعاده، فطلب منها أن تمهله ليفكر، وحرص "أبو كف" بعد ذلك أن يأوي إلى فراشه مبكراً كل ليلة ويغلق بابه من الداخل بالمفتاح، وكانت الحاجة وابنتها تخرجان إليه من الحائط، وتظلان معه حتى الفجر يأكلون معاً ويسمرون، وكانت البنت جميلة الصورة رشيقة الجسم، متفتحة الأنوثة، هادئة، ناعمة، رقيقة، دافئة، كما يصفها أبو كف وأخبر أبو كف الحاجة أنه قبل شرطها، وفي الليلة التالية تم الزواج، وصدحت الموسيقى في أركان الغرفة، وزفت العروس إلى العريس على دقات الدفوف.
حياة جديدة:
لم يكد العريس يعانق عروسه في الفراش (بعد أن غادرتهما الحاجة) حتى أحس الحياة تسري في ساقيه المشلولتين، وفي اليوم التالي فرحت أم "أبي كف" وأخوته بشفائه عندما شاهدوه يمشي على قدميه، لكنه لم يبح بسره إلى أحد، إلا أن الفرحة لم تتم، فقد تغير سلوك الشاب تماماً، فقد أصبح دائم العزلة في غرفته لا يغادرها إلا نادراً، كان يأكل ويستحم فيها، ويقضي نهاره وليله خلف بابها، وعندما لاحظته أخوته يتحدث مع أشخاص لا يرونهم، ظنوا أنه فقد عقله، أما هو فقد كان سعيداً بعروسه الجميلة، وفي خلال سنتين أنجب منها طفلين ومع أن زوجته وطفليه كانوا معه، كان وحده فقط الذي يستطيع رؤيتهم وسماع أصواتهم.
قدرات علاجية:
ذات ليلة زارته الحاجة وأخبرته أنها قررت أن تتخذ منه وسيطاً يعاونها على شفاء المرضى من بني الإنسان، وطلبت منه الانتقال إلى بيت آخر، لأن والدته وأخوته يحدون من حريته وزوجته وطفليه.
وبعد ثلاثة أيام استأجر "أبو كف" منزلاً صغيراً في مدينة شبرا الخيمة وبدأ يمارس نشاطه الجديد في علاج المرضى فيه، واستطاع أن يشفي حالات من العقم والشلل، وأمراض الكبد والكلى والصدر، وأجرى عمليات جراحية ناجحة مثل: عمليات الزائدة، واستئصال سرطان الثدي، وكان يأخذ من المريض خمس وعشرين قرشاً نظير الكشف عليه، وكان الكشف يتم بمجرد النظر إلى المريض وكان العلاج والدواء والجراحة بالمجان.
تهمة مزاولة الطب دون ترخيص:
كان أبو كف يعالج مرضاه بالأعشاب أحياناً، وفي أغلب الأحيان بأدوية يقوم بشرائها على نفقته من الصيدليات، وعندما ذاع صيت "أبي كف" واتسع نطاق نشاطه، تقدم أحدهم ببلاغ إلى رئيس مباحث قسم أول شبرا الخيمة الذي قام أولاً بجمع التحريات التي دلت على أن الشيخ "أبو كف" يزاول الطب بدون ترخيص، فأصدر إذناً من النيابة بالقبض عليه، وأمام وكيل نيابة شبرا الخيمة اعترف أبو كف بأنه يقوم بالكشف على المرضى وعلاجهم، وإجراء العمليات الجراحية لهم بأمر الحاجة، وأنه لا يستطيع عدم تنفيذ الأمر خشية أن يتعرض للأذى، وعندما سأله وكيل النيابة عن اسم الحاجة وعنوانها لإلقاء القبض عليها فوجئ بأنها ليست بشراً وأنها جنية مؤمنة، وأنهى وكيل النيابة التحقيق، وأمر بحبس "أبي كف" أربعة أيام وإحالته إلى محاكمة شرعية، ولم يكد وكيل النيابة ينتهي التحقيق حتى شعر بصداع حاد في رأسه اضطره إلى مغادرة مكتبه ليلازم الفراش في بيته.
وفي يوم 15 أبريل 1980 عقدت محكمة شبرا الخيمة جلستها وجاء أبو كف واعترف بكل ما نسب إليه، وأراد القاضي أن يتخبر قدرة المتهم فطلب منه تشخيص الأمراض التي يعاني منها ستة من المحامين كانوا موجودين في الجلسة، ونجح "أبو كف" في الامتحان نجاحاً مذهلاً، فقد ذكر لكل واحد من المحامين الأعراض التي يعاني منها، وشخص له مرضه ووصف له الدواء، ثم جاء الدور على القاضي، ومن بعده الجمهور الموجودة في القاعة.
وكان الحوار بين القاضي والمتهم مثيراً وصيحات "الله أكبر" تتعالى في أرجاء المحكمة، ورغم ذلك فقد أمرت المحكمة بإحالة "أبي كف" إلى مستشفى الأمراض العصبية لتوقيع الكشف الطبي عليه مع استمرار حبسه لحين نظر القضية في جلسة الأحد من إبريل 1980.
ضجة إعلامية:
نشرت صحيفة الجمهورية كل تفاصيل القصة في عددها الذي صدر صباح الأربعاء 16 من أبريل سنة 1980 وأثار ما نشر جدلاً كثيراً، وانبرى عدد من رجال الدين والأطباء وعلماء النفس والروح، كلاً يدلي برأيه، قال بعضهم:
إن "أبا كف" دجال وقال البعض الآخر: أنه على اتصال بقوى خفية، أما تقرير مستشفى الأمراض النفسية فقد جاء فيه أن "أبا كف" مصاب باختلال واضطرابات في التفكير، وأن حالته تدخل ضمن جنون العظمة.
ووسط كل هذا الدوي لم يقو أحد على تفسير نجاح الشيخ أبي كف في علاج بعض الناس حتى الشفاء، ولإجرائه عمليات جراحية ناجحة للبعض الآخر، وفي صباح الأحد 22 أبريل 1980 عقدت محكمة شبرا الخيمة الجزائية جلستها برئاسة القاضي الذي أعلن براءة الشيخ "أبي كف" من جميع التهم الموجهة إليه، وجاء في حيثيات الحكم:
"لقد ذكر المتهم أنه مسير ولا يملك حرية الاختيار وأنه لا يستطيع معارضة القوى الخفية التي تسيطر عليه وتستخدمه في تنفيذ أوامرها، وإلا تعرض للأذى وأن التشريع العقابي قد خلا من نص يحرم ما أسندته النيابة للمتهم من اتهام لأن الاتهام المسند للمتهم هو الاستجابة لقوى خفية غير منظورة، وأن المحكمة وإن كان قد ثبت لديها أن ما قام به المتهم من تشخيص للمرضى من بعض المرض صحيح، رغم أنه ليس دارساً للطب، إلا أنها لا تستطيع أن تجزم بيقين اتصال الجان بالمتهم، لأن ذلك أمر يخرج عن قدرتها وقدرة أي شخصن ولما كان التشكيك يفسر لصالح المتهم، لأن الأصل في الإنسان البراءة، فإن المحكمة تشكك في إسناد الاتهام إلى متهم يسنده هو إلى القوى الخفية التي لا يستطيع معارضة أمرها، وتستخدمه كآلة، وإلا تعرض للأذى".
وهلل "أبو كف" عند سماع الحكم وقال للصحفيين:
"إن الحاجة كانت حاضرة أثناء الجلسة، وأنها كانت تقف خلف القاضي وهو يقرأ حيثيات الحكم"، وعندما سأله أحد الصحفيين عن أوصاف الحاجة واسمها قال إن ذلك محظرو عليه، وأن كل ما يستطيع قوله: إنها من الجن.
بطبيعة الحال نترك القارئ الكريم حرية تصديق الحكاية وفقاً لقناعاته. فالقصة لا تكتفي بسرد وتأكيد زواج الإنس من بنات الجن، وإنما تمتد لتأكيد روايات أخرى عن مساعدة الجن بالعمليات العلاجية الإعجازية.
لكننا مع ذلك لا نستغرب أن تكون هناك أقوام أو فئات من الجن قد تطوعت لمثل هذه المهام لوجه الله تعالى، غير أن الكثير من الشياطين يقومون بمساعدة أتباعهم من بني البشر بحالات علاج مشابهة بقصد تضليلهم وتضليل المرضى الذين يعتبرون أن مثل هؤلاء المعالجين من الأولياء وأصحاب الكرامات.
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا