أسطورة النرويج للكاتب فارس عاشور

  • الكاتب : q8_failaka
  • / 2025-02-05

4. اسطورة النرويج 

"ما تعريف الأسطورة؟ 

هي القصص بالغة القوة التي يغلب عليها طابع الخيال. 

وأنا بدوري لدي اسطورة في بلدي". 

هذه ما قالته فتاة تدعى ويندي في أحد مواقع التواصل، فتاة من النرويج؛ هي فتاة صغيرة، وقد أثار الأمر استغرابي، ما الذي تفعله فتاة صغيرة في مواقع تواصل مخصصة للرعب؟ ما نوع القصص التي ستحكيها؟ ولكني حين قرأتُ ما قالته وجدتُ أنها حكت قصة مثيرة للاهتمام حقا. 

تقول: 

مرحبا، أنا اسمي ويندي، وأنا فتاة - ما زلت - في المراهقة، وأنا في الصف الأول الثانوي، أعيش مع أبي فقط؛ لأن والدتي توفيت عندما كنتُ صغيرة، والدي كل شيء بالنسبة لي، وهو من قام بتربيتي، كان حريصًا على زرع الكثير من القيم والأشياء الجيدة بي، ولكنه - أيضًا - كان لديه العديد من المخاوف غير المبررة. 

فقد كان له الكثير من العقائد الغريبة التي ربيتُ عليها، منها ألا أفتح عيني أبدا في الثلاثة أيام التي تنتصف الشهر، فهو يؤمن بأسطورة جن قديم، عاش في منطقتنا، وهو يظهر في هذا الوقت ويفترس الأشخاص الذين - ما زالوا - مستيقظين بعد الثانية عشرة. 

ولم يكن والدي فحسب؛ بل هي خرافة يؤمن بها الكثيرون من النرويجيين مع اختلاف بعض التفاصيل، فبعضهم يقول إنه قصير وأقرب للوحوش، والآخرون يقولون إنه فارع الطول وأقرب للبشر، وهكذا. 

أسطورة، مُعرَّضة للكثير من الأكاذيب. 

لعله كان كلامًا مرعبًا في بداية الطفولة، ولكن لاحقا لم أعد أصدق هذا الكلام، وآمنت بأنه كلام يقولونه الآباء فقط لينام الأطفال، ولم أصدق - يومًا - تلك القصص السخيفة التي رواها لي، ولم أؤمن قط بالأساطير. 

الغريب والمضحك أني كبرت - وما زال - والدي يردد هذا الكلام، ولم أعلم أنه سيأتي يوم وأصدق كل حرف أخبرني به 

في منتصف شهر ديسمبر، وفي أحد الليالي الشتوية الباردة، كان القمر مكتملاً تلك الليلة، خرجت ووقفت في الشرفة، لطالما أحببت التحديق في السماء ليلا، كانت النجوم المتلألئة، وأصوات البوم وحشرات الليل، الهدوء، كم هذا جميل! يمنحني دائماً شعورًا بالسكينة. 

بعد عدة دقائق دلفت للداخل، وذهبت لأجلس على الأريكة؛ لأشاهد فيلمًا على التلفاز، بعد أن أعددتُ لنفسي وعاءً ساخنا ولذيذا من الفشار، وضعت الوعاء في حجري واندمجت بالفيلم لفترة طويلة. 

لم أشعر بالوقت حتى انتصف الليل، عندها دخل والدي إلى غرفة المعيشة ووقف أمام التلفاز ولم يبد مسرورًا وهو يذهب لإغلاق الشرفة وهو يلتف حول نفسه ويرتعش. 

ثم قال وهو ينظر لساعته: 

- لقد تأخر الوقت يا ويندي. 

ثم عقد ذراعيه وتنهد ثم تابع: 

- إنه منتصف الليل تقريبا... من فضلك اذهبي إلى السرير. 

أبديت له بصراحة انزعاجي ولم أحرك ساكنا وأجبته: 

- أبي... ما زلت أشاهد الفيلم. 

انفعل أبي قليلًا: 

- اسمعي ويندي... لقد أخبرتك عدة مرات بما يحدث عندما تستيقظين في هذا الوقت المتأخر. 

أجبته:

- أبي، توقف أرجوك... لم أعد طفلة. 

لكن والدي رمقني بنظرة مخيفة، ولم يكن على استعداد للنقاش وهو يقول: 

- لن أطلب منك مرة أخرى ويندي، اذهبي إلى الفراش. 

أغمضت عيني وتنهدت تنهيدة طويلة وأطفأت التلفاز، وفي طريقي للصعود وضعت وعاء الفشار على طاولة القهوة وأنا منزعجة وصعدت. 

دخلت غرفتي، وأغلقت الباب خلفي، بصراحة كنتُ أنوي العودة إلى الطابق السفلي عندما يذهب والدي للنوم لمواصلة فيلمي، كان فيلم رعب انتظرت عرضه منذ فترة طويلة، لن أضيع الفرصة، قلت في قلبي (آسفة أبي). 

انتظرت حتى سمعتُ باب غرفة النوم لوالدي يُغلق، انتظرت بعدها لمدة دقيقة، ثم نزلتُ إلى الطابق السفلي متجهة إلى غرفة المعيشة، وأطفأت الأنوار لكيلا يشعر باستيقاظي. 

توجهت نحو الأريكة وجلست بسعادة وحذر وأنا أمسك بوعاء الفشار الذي تركته وأعدته إلى حجري مجددًا، ثم أعدتُ تشغيل التلفزيون ولكني تأكدت من خفض مستوى الصوت حتى لا يستيقظ أبي. 

بعد حوالي ربع ساعة، بدأت أسمع صوت حركة خفيفة تتحرك ما بين الباب وشباك المطبخ من الخارج، اعتقدت أنه راكون فَلَم أعره اهتمامًا، واستمر الصوت لكنني تجاهلته، لابد أن هذا الصغير يعبث في سلة المهملات خارجًا، المهم عندي أن كلا الشباك والباب مغلقين، فليلعب بالخارج ذلك الراكون كما يشاء، بالرغم من أن والدي سيجن جنونه أن رأى القمامة مبعثرة أمام الباب، تلك مشكلته. 

ولكن بعد فترة بدأتُ أسمع صوت نقر، نقر على النافذة، كان خفيفًا جدا وكأن أحدهم ينقر بظفره الأصغر على الشُّباك، قلتُ لنفسي إن هذا ليس الراكون بالطبع، ولكنها حركة فراشة أو عثة الليل وهي تصطدم بالشباك لتحاول الوصول للضوء. 

لقد تجاهلت هذا أيضًا، لكن النقر استمر، وزاد ارتفاعه.

انتهى الفيلم أخيرًا، ونهضت لأضع وعاء الفشار الفارغ في الحوض، دخلت إلى المطبخ، ووضعتُ الوعاء في الحوض، ولكن أمام الحوض لم أتحرك. 

كان هناك صوت، صوت نفس، لا ليس أمامي، من الأعلى. 

كنت خائفة وأنا أشعر بصوت أنفاسه، وبدأتُ استشعر ظلا كبيرًا فوقي وقد تجمدت خوفًا، وأخيرا نظرت. 

نظرت إلى الأعلى، لتلتقي عيناي مباشرة مع عينين تنظران لي مباشرة، من خارج الزجاج، لكن كان وجه، وجه إنساني مشوه. 

صارت دقات قلبي تتسارع، كان الوجه شاحبا، شبه شفاف، وله عيون صفراء جوفاء كان فمه ملتويًا يبتسم ابتسامة بشعة تكشف عن أسنان حادة وغير مستوية. 

جمد الخوف حركتي تمامًا، حتى عقلي لم يُحركني؛ فقد كان يكافح من أجل استيعاب ما كنتُ أراه. 

بعد ذلك، اقترب الوجه من الزجاج، واستطعت رؤية بخار أنفاسه يملأ النافذة وتحولت ابتسامته لغضب، كان حقيقيا. 

أردت أن أصرخ، لكن لم يخرج مني أي صوت، أجبرتُ نفسي على الركض بعيدًا وتعثرتُ عدة مرات محاولة الوصول إلى الدرج. 

كان علي أن أصل إلى والدي، ولكني تعثرت، هذه المرة لم أتعثر بسبب الخوف، لقد شعرت بشيء ما أمسك بقدمي، التفت للخلف فَلَم أَرَ شيئًا ولكني رأيتُ الباب الأمامي يُفتح؛ اتسعت حدقتا عيني من الرعب، فتح الباب ببطء بصوت صريره الذي قتلني رعبًا. 

ثم دخل، هو نفسه، دخل بكل هدوء للمنزل، وقال وهو يسير نحوي: 

- ويندي عزيزتي... أنت مستيقظة، كم أنا سعيد برؤيتك. 

كان صوته عاديًا بالنسبة لشكله الوحشي، تأوه هذا الشخص وهو يمشي نحوي بخُطى ثقيلة بينما تجمدت في مكاني، كانت كل غرائزي تصرخ في وجهي لكي أركض، ولكني لم أقوَ على الحراك بينما انهمرت دموعي فقط. 

حملني بيد واحدةٍ، كان ضخمًا جدًا وأصابعه باردة كالثلج، وعيناه مثبتة باتجاه عيني، شعرتُ بأن شيئًا ما بجسمي يُسحب إلى عينيه، كما لو كان يسحب روحي، كان يسحبها ويسحبها وهو يبتسم. 

شعرتُ بضعف غريب يسري في جسمي، وهو يحملني باتجاه الباب خارج البيت، أشعر بالنوم الشديد، خارت قوتي ولم أقدر على الكلام، أود أن أطلب منه أن يدعني وشأني، ولكن... 

صار كل شيء ظلاما بالتدريج واستسلمت للنوم، ولكني أسمع صوتا من بعيد. 

ويندي... ويندي. 

غمر ضوء ساطع الغرفة، وكسر غيبوبتي، لقد تم انتزاعي للخلف بعيدا عن قبضة هذا الشبح، لقد كان أبي. 

صرخ الشبح وارتد عن النور، ثم اختفى في الهواء، لقد تركني هذا الأمر في حالة من الفزع وعدم التصديق، ماذا حدث للتو؟ 

قال والدي بصوت يرتجف وهو يركع بجانبي وأنا في الأرض:

- ويندي عزيزتي، هل أنت بخير؟ 

أومأت برأسي، وما زلتُ ألتقط أنفاسي، كان وجهي يملأوه الكثير من الأسئلة. 

عندها ساعدني والدي على الوقوف وقال لي بحزن: 

- هذه هو الشبح التي حذرتك منه، كان عليك أن تستمعي لنصائحي. 

ارتجفت عندما تذكرت ملمسه البارد: 

- لم أصدقك، أنا آسفة جدا يا أبي. 

ساعدني والدي للوصول إلى سريري، وفي كل نافذة نمر من جانبها كنتُ أنظرُ بطرف عيني وأنا ارتجفُ رعبًا، كنتُ أتوقع رؤية ذاك الوجه المرعب مرة أخرى. 

في تلك الليلة، لم أستطع النوم بالطبع، كنتُ أسترجع ما رأيته، كان الأمر - لا يزال - صادمًا بالنسبة لي، وظللت أعيش الأرق أياما وشهورًا كثيرة حتى استطعت النوم مجددًا، بالطبع لم أكن قط لأجرؤ على فتح عيني أو حتى النزول من سريري في منتصف الشهر وإن كان للذهاب للحمام. 

ومع ذلك، ما زلت أسمع همس تلك الروح، والقرع الصغير على نافذة غرفة نومي، وأحيانًا يد باردة على كتفي، وأحيانًا تلتف حول رقبتي، وأنا أختنق طوال الليل.

 

التعليقات

للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا