2. كابينة الهاتف
أنا اسمي ياسر، حين ياسر حين حصلت هذه القصة كان عمري 27 عاما، حياتي بسيطة تقليدية مملة روتينية لا جديد فيها، منذ أن تخرجت وأنا نوعا ما - عاطل، وإن توظفت فإنني لا أمكث طويلا في الوظيفة، أطرد مباشرة لعصبيتي وسوء تصرفاتي، اعترف... حتى أبي نفسه طردني عدة مرات، ودوما يصرخ علي:
"عاطل... فاشل... زير نسا...ء" وغيرها الكثير من الشتائم التي لا تودون سماعها، معه حق بصراحة، كنتُ أحمق، لا أدرك معنى الحياة، حتى جاء ذلك اليوم الذي قلب موازيني.
كنا في عام 2011م، ولقد بدأتُ للتو في إحدى الوظائف، الوظائف لن أمكث فيها طويلا كالمعتاد، كانت في مطعم للوجبات السريعة في الحي الشعبي الذي أقطنُ فيه، وهو قريب من المنزل لدرجة أني أذهب وأعود مشيًا يوميًا عبر الحي القديم أعبر البيوت البسيطة والأبنية القديمة، وكبائن الهاتف، والبقالات المتهالكة بين الأطفال الذين يلعبون الكرة في الحي.
ماذا؟ استوقفتكم كبائن الهاتف، هذا صحيح - ما زال - لدينا منها في الحي، ولا أعلم من سيستخدمها في 2011م؛ فالجميع لديه هاتف حتى الصغار، كما أنها لا تعمل أصلاً.
صارت مرتعا للقطط ومن الخارج كتب عليها أسوأ العبارات البذيئة والشتائم، إنها تلوث بصري، هذا كل شيء.
على أي حال لم أعرها اهتمامًا، وصار شكلها معتادًا لدرجة أن عيني اعتادت شكلها فلم أعد أراها حين أسير، وحدهم الغرباء من خارج الحي ينبهرون حين يدركون أننا - ما زلنا - نملك كبائن اتصال هاتفية فيذكرونا بوجودها.
صورة
في أحد الأيام، كنتُ في طريقي إلى المنزل بعد الانتهاء من وردية العمل في المطعم في الثالثة فجرًا، كنتُ متعبًا جدًا وأتوق للعودة للمنزل والنوم، الليلة أكثر برودة قليلا من المعتاد، ونحن على وشك دخول الشتاء عندما بدأ المطر الضبابي في طمس الرؤية.
الحي هادئ وكأن لا سكان فيه حتى القطط اختفت هاربة من المطر، الكل نيام ولا صوت يُسمع سوى المطر، والظلام حالك جدا فبالكاد ترى إضاءة بيضاء من إنارة خافتة بين كل عشرة مبانٍ حتى رأس الشارع.
كنت أرفع رأسي للنظر إلى الطريق قليلاً ثم أعود للنظر إلى قدماي لأحمي وجهي من المطر، وحين رفعت رأسي في أحد المرات وقعت عيني على الكابينة، فخرجتُ من أفكاري وعرفتُ أنني اقتربت من المنزل، فقد أصبحت الكابينة علامتي مع الوقت.
تجاوزتها بعدة أمتار وعدتُ للغرق في أفكاري مجددًا...
و... رن!
رن الهاتف بالكابينة.
التفتُ غير مصدق، هذه الكابينة لا تعمل منذ سنوات، كيف؟ كان صوت الرنين يشق الظلام والسكون في الحي النائم، عدتُ للكابينة أسرع الخطى قبل أن يغلق الخط، وأنا أفكر، ما الذي أفعله؟ وإن وصلت قبل أن يغلق...
هل سأجيب؟ لماذا وبصفتي من؟
وفي منتصف وساوسي توقف الرنين، شعرتُ براحة لا أعلم سببها؛ وكأنها أراحتني من عناء التفكير، ولكني ظللت أحدّقُ غير مصدق بالكابينة.
لتعود وترن بعد عشر ثوان.
لماذا أجبت؟ لا أعلم، يُمكنك أن تُسمي ذلك فضولا فطريًا لدى الإنسان، لكن شيئًا ما تغلب علي، فمَن الذي سيتصل بهاتف عمومي عشوائي في هذا الحي؟ وأصلا كيف؟
أجبت بغطرسة وثقة:
- - ألو... من معي؟
في الطرف الثاني كان هناك صوت طقطقة، شخص يتنفس فقط.
فكررت:
- ألوووووو...
- لا يوجد صوت.
فأغلقت الخط، لا أخفيكم كنت متوترا، ولكني هدأت حين أقحمت نفسي في الأمر وأجبتُ الهاتف، انتهى.
وعدت للمنزل.
ذهبت للعمل في اليوم التالي، وكعادة مطاعم الوجبات السريعة، لا تهدأ ولا تكل، لقد انشغلت جدا لدرجة أنني نسيتُ الأمر برمته.
حتى عدتُ للسير بجانب الكابينة في اليوم التالي، لقد صار نبض قلبي يتسارع وأنا متحفز جدا، هل سيرن؟ معقولة، ماذا لو رن؟ لا... لن يرن، مَن مِن سُكان المباني المطلة على هذه الكابينة يتلاعب بي؟ لابد أنه انتظر عبوري البارحة واتصل، ربما أصلحها بطريقة ما.
وفعلا، حالما تجاوزتها، هذه المرة بعدة خطوات فقط، رن الهاتف مجددًا.
نعم، هذا مقلب، وحالما أمسك بهذا الظريف سوف أقتله.
أجبت بعصبية:
- نعم.
(صوت تنفس فقط).
انفجرت غضبًا:
- اسمع يا (قلت له شتيمة) هي مسألة وقت قبل أن أمسك بك..
- مساء الخير، كيف حالك؟ (صوت فتاة)
انطفأ غضبي فورًا وتحول لذهول.
أجبتُ بعد تأتأة:
- مرحبا... من معي؟
سألت الفتاة في مرح:
- ما اسمك؟
أنا:
- ياسر، وأنتِ؟
الفتاة:
- مرحبا... آسفة على المكالمة بالأمس، الإشارة هنا سيئة للغاية.
أنا:
- لا بأس.
ثم سكت انتظر منها أن تشرح ما الذي يحصل هنا.
دام الصوت عدة ثوان ثم قالت:
- لا شي...ء فقط أشعر بالملل، لقد قلت أن اسمك ياسر، أليس كذلك؟ أنا سارة، من الرائع أن أتحدث إليك.
قالتها ببهجة، بينما كان صوت الطقطقة والريح - لا يزالان - موجودين في الخلفية.
أنا:
- أهلا سارة، سؤال واحد فقط يا سارة، لماذا تتصلين بهذا الهاتف العمومي؟
سارة بغير مبالاة:
- أممم... لم أكن أعرف حقا أتصل بمن، فضغط على زر الطوارئ، وها أنا أتحدث إليك.
أنا:
- انتظري... هل قلت حالة طوارئ؟ هل أنتِ بخير؟ هل تحتاجين إلى مساعدة؟
سارة:
أنا:
- قليلا... نعم.
أنا:
- ماذا حدث؟
- ..... أنا ميتة.
اتسعت حدقتا عيني وأنا أنظر في اللامكان وأنا غير مصدق، حسنًا لقد أصبحت ليلتي مثيرة للاهتمام.
قلت لها:
- سارة عزيزتي... أنت تقصدين ميتة مثل... ميتة من السعادة أو الفرح كما تكتبون أنتن الفتيات - دائمًا- في انستغرام؟ أم ميتة بالمعنى الحرفي؟ مثل توقف قلبك عن النبض؟
سارة وهي تضحك:
- - أنت مُضحك للغاية.... لا لا ميتة بالمعنى الحرفي.
علمتُ هنا أنني أتحدث مع فتاة تشعر بالملل، ومن الواضح أنها تقطن أحد هذه الأبنية المجاورة وهي تنتظر عبوري هنا كل ليلة، لعلها وقعت في حبي وابتكرت هذه الطريقة، حسنًا، لا يهمني المهم أنها فتاة، وترغب في قضاء وقت معي عبر الهاتف؛ الجانب الإيجابي والممتلئ من الكأس.
التفتُ قليلا لعلي أراها تقف في أحد الشبابيك هنا أو هناك.
قالت لي:
- ارتاح... لا أقف هنا ولا هناك.
ضحكت في سرّي، لقد أكدت لي الغبية أنني على حق، وأنها تراقبني من أحد الشبابيك، الرؤية في الظلام صعبة، حسنًا إن كان الأمر فيه تسلية لا بأس بالمسايرة، شخص عبثي مثلي لن يقلق من مجرد متحرشة، بالعكس.
قُلتُ لها وأنا أضحك:
- حسنا.
تابعت كلامي:
- حسنا، ماذا ترتدين الآن؟
قالت:
- أنا ميتة.
أنا:
- اوه... صحيح، أنت ميتة، نعم لا ينبغي أن أسأل هذا السؤال، لنغير الموضوع، حسنًا قولي لي، ما هو شعور الموت؟
أجابت سارة بكل ثقة وكأنها لم تلتقط نبرة استهزائي:
- يجب أن أكون صادقة معك، إنه ليس رائعا، من الواضح أن الموت بارد بعض الشيء، لكن بشرتي لا تشعر بشيء.
ثم تابعت بجدية:
- يمكن لجميع مفاصلي التحرك، لكن أشعر وكأنني إذا تحركت بسرعة كبيرة سأبدأ في الانهيار والتفكك إلى قطع، كما أنه من الصعب حقا التنفس هنا، كلّ نفس قصير وحاد لدرجة أنني لا أشعر بالراحة.
أنا:
- يا إلهي! لا ينبغي أن تكوني جادة لهذا الحد، نحن نتحدث فقط، حسنا.. أممم، كيف مت؟
أجابت سارة:
- لقد قطعت معصمي في الحمام، ولكنني لا أتذكر السبب وراء ذلك، لا أعتقد أنني أردتُ أن أموت.
يا إلهي! هذه الفتاة لا تود قضاء وقت ممتع، وقد بدأتُ أمل هذه المزحة، إنها مصرة على العودة إلى موضوع الموت نفسه هذا.
أنا:
- اسمعي سارة، لقد جعلتي الليلة مثيرة وسعيد بمحادثتك، إلى اللقاء.
وأغلقت الخط في وجهها.
بعد ثانية واحدة عاد الهاتف ليرن مرة أخرى.
ما الهاتف الموجود في هذه العالم الذي يُمكنه أن يطلب رقما في أقل من ثانية ويصل الاتصال مباشرة! ألا يحتاج الأمر بعد إغلاقي الخط في وجهها وطلب رقمي مجددًا إلى عدة ثوان لكي يرن عندي!
رفعت السماعة بقلق وتحفز.
سارة بغضب:
- لا... لا يمكنك الذهاب، من سمح لك؟
أنا:
- ولم ذلك؟
قالت:
- لأنك تستطيع مساعدتي... وأنا أستطيع مساعدتك.
أنا بانفعال:
- ما الذي يمكن أن أحصل عليه من فتاة ميتة سوى قضاء عامين في مستشفى للأمراض العقلية؟
سارة وهي تعود لهدوئها مجددًا:
- أستطيع أن أوصل لك رسالة من عالمي، ألا تريد أن تسمع من الشابين اللذين دهستهما بسيارتك وتركتهما ليموتا؟
لم أستطع بلع ريقي، جف لساني وحلقي، واختفت البرودة في تلك الليلة والكابينة بمستوى ساونا من الحرارة العصبية وشعرت ببعض حبات العرق تنزل على جبهتي ببطء وانحشر الخوف في بطني.
تلعثمت:
- من؟... من معي؟ من أنتِ حقا؟ وماذا تريدين؟
قالت بلا مبالاتها مجددًا:
- لا تخف، فالموتى يعرفون الأشياء جيدا، إنهما هنا معي... يريدان منك أن تعرف شيئًا ما.
انفجرت بغضب:
- أنت سارة أو ماذا كان اسمك، سوف أعرف من أنتِ وأعثر عليك وأقتلك.
أجابت:
- كما قتلت الشابين؟ لا بأس تعال، اسمي الكامل هو سارة محمد سالم، ابحث عني وتعال.
أغلقتُ الخط في وجهها بينما رن الهاتف كثيرًا ورائي وركضتُ أرتعش للبيت لا أكاد آخذ أنفاسي، محمد سالم.. محمد سالم؟ من لدينا في الحي باسم محمد سالم أو له قريب باسم محمد سالم، سوف أعثر عليها فعلا ولو كان آخر عمل أقوم به.
عدت للمنزل وأنا أتجاهل عائلتي الذين ظلوا يحدثوني باستمرار، والدتي كانت تُصلي الفجر ونادتني، أما أبي فقد انهال علي بالصراخ طالبًا مني مرافقته للصلاة، كما تجاهلت أختي التي خرجت من غرفتها لترى ما سبب الضوضاء هذه.
دخلت غرفتي وهنا كانت الكارثة هاتفي، إنه يرن في جيبي، مكتوب في خانة المتصل (غير معروف).
أجبت وقد زاد تصبب عرقي، والطرف الآخر كان صوتها، سارة، كانت تتحدث كما لو أنها تتحدث من ساعات دون فواصل:
- لم تعد إليهما وتساعدهما، بل تركتهما ينزفان حتى الموت، لا تقلق هما لا يلومانك، فهما يعرفان أنك كنتَ خائفا وحزينًا منذ ذلك الحين.
أردتُ بشدة أن أضع الهاتف جانبًا، وأن أركض تحت اللحاف وأختبئ، وفي اليوم التالي يكون كل هذا قد زال ببساطة، ومع ذلك، لقد نما الفضول بداخلي، ماذا لو كنتُ على اتصال حقيقي بالعالم الآخر فعلا؟ أنا لم أخبر أحدا على هذا الكوكب بقصة دهسي للشابين، فماذا لو كانت هذه الكابينة البالية حلقة وصل تربطني بالعالم الآخر؟
قلت لها محاولاً ضبط أعصابي:
- أين أنتِ؟ هل يمكننا أن نلتقي وجها لوجه ونتحدث؟
- لن يُعجبك المكان هنا يا ياسر، الجو بارد للغاية ولا معنى له على الإطلاق، أنا لم أدفن بعد.
أنا:
- ماذا تقصدين؟
سارة:
- ما زلت في ثلاجة الموتى، أخبرتك... المكان بارد.
تجمد الدم في عروقي، قلت بانفعال مجددًا:
- أي مستشفى؟
سارة:
- الذي أخذوا له الرجلين اللذين دهستهما.
أنا:
- كيف عرفتي إلى أي مستشفى تم نقلهما؟
سارة:
- قلك لك إنهما بجانبي.
شعرتُ بالصداع، لقد دار رأسي هذه الفتاة ترغب بالانتقام حقا، خفت أكثر وأغلقت الخط، وظل الهاتف يرن ويرن.
لا تقولوا لي ذلك فقد فعلتُ، بالطبع أخرجت البطارية من الجهاز، لكنه ببساطة لم يتوقف عن الرنين.
لم أعد أشك في حقيقة أنها تتصل من ثلاجة الموتى فعلا، ما يحدث ليس طبيعيا، خبأتُ الهاتف تحت عديد من الوسائد حتى انكتم صوته - نوعًا ما - في غرفة ثانية، ونمت متعبًا وكأنني خرجت من معركة، وكانت أسوأ نومة نمتها بعد تلك الحادثة؛ حادثة الدهس.
تشبهها كثيرا.
أنا لا أنام جيدا منذ ذاك اليوم أصلا، ولكني أخترت أن... أغيب ضميري.
كان الوقت متأخرًا، وكنتُ أراسل بهاتفي عندما رفعت رأسي متأخرًا لأجد رجلين يطيران في الهواء في طريق رئيسي في وقت متأخر من الليل.
كان الطريق خاليًا، ولم أتوقف؛ لقد خفت كثيرًا، ما بين ضميري الذي يصرخ وخوفي، انتصر الخوف.
لم أتوقف ولم أنم طيلة الستة أشهر الماضية، ولم أخرج من الحي طوال تلك الفترة من الخوف ولم أحرك السيارة.
من منزلي للعمل والعكس، هذا كل شيء.
ولكن لم؟ لم بَعد ستة أشهر تظهر هذه الشبح! أو الجن لا أعلم أيا كانت.
ظللت شبه نائم وشبه مستيقظ حتى الظهر، وحين استيقظت، أول شيء فعلته هو أني اتجهت للهاتف، لم يكن يرن، وبصراحة لم أشغله، آخر شيء أريده هو الهاتف الآن، لدي شيء لأتحقق منه أولا.
ركبت السيارة، تلك التي حملت الكثير من الدماء وظللت أنظفها خلف أحد الأشجار لمدة طويلة ليلة الحادث، وطوال الطريق وأنا أفكر بسارة وهويتها، وهناك توقفت، على رصيف يمين الطريق، عند الموقع الذي دهستُ فيه الشابين، وقفتُ كثيرًا أتفحص الطريق علني أعثر على إجابات.
كان الوقت قد أصبح قرب العصر؛ ولذلك كان من السهل العثور على المارة والباعة المتجولين، ظللت أمشي على الرصيف بمحاذاة الطريق؛ حتى عثرتُ على كشك لسجائر يعمل فيه كبير سن ودعوت الله أن يكون ساذجا بما يكفي.
تقدمت له وسألته:
- سلام عليكم... عمي هل حصل حادث هنا على هذا الطريق؟
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، لا يا ابني، أعوذ بالله ماذا تقصد؟
قلت:
- عمي أنا رجل نوراني، أحلم بأشياء حقيقة، أنا أحلم بحادث دهس لرجل هنا كل يوم من أربعة أشهر تقريبًا.
حاولت أن أذكره بالحادثة بقدر الإمكان دون أن أقترب من التاريخ أو التوقيت الصحيح.
- آآه... تذكرت تقصد قبل ستة أشهر، هما شابان اثنان وليس واحدا فحسب، نعم قبل هذا الكشك ببعض الكيلومترات دَهَسَ حقير شابين بعمر الورد...
حسبنا الله ونعم الوكيل فيه، لابد أنه كان منتشيا، سبحان الله لابد أن الله أراد أن يكشف لك شيئًا يا ابني، سبحان الله!
قلت بتوتر:
- ن..... ن. نعم عمي نعم، حسنًا... هل تعلم إلى أي مستشفى نقلوهما؟
- المستشفى العام يا ابني، هل تعرفه؟ أم تحتاج وصفا؟
أنا:
- لا يا عمي... شكرًا شكرًا.
- ما اسمك؟ هل تعرفهما؟ أم أنه مجرد حلم؟
أنا:
- سلام عليكم يا عمي علي الذهاب.
وهربت من العجوز المتطفل قبل أن يحفظ ملامحي متجها إلى المستشفى العام، عاد هاتفي للرنين، طوال الطريق يرن ويرن، وكأنها بانتظار وصولي، حين اتجهت لثلاجة الموتى في الطابق تحت الأرضي أو كما يسمونه البدروم، كان الطابق مظلما وقاتلا لأبعد الحدود، على طول الممر كاملا كنت أرى ثلاث ظلال تتبعني، وكان الخوف يقتلني، ورنين الهاتف يصنع صدى مزعجًا أشعر أنه سيوقظ الموتى في هذا الطابق ليلتهمونني حيا، ولا أستطيع إسكاته، أنا على وشك الانفجار.
وفي نهاية الممر كان هناك باب حديدي مُقبض للروح، عليه ملصق مكتوب عليه بالأحمر (ثلاجة الموتى).
بحثت عن حارس الثلاجة دونما جدوى، طرقت الباب، ناديت، والهاتف اللعين لا يتوقف عن الرنين، ليتني تركته في السيارة، كم أرغب بإلقائه في القمامة!
أجبت:
- نعم.
سارة:
- أتبحث عن الحارس؟
أنا:
- نعم، ألا تودين رؤيتي؟ هيا لننهي هذا.
سارة:
- هههههه... حسنًا سأفتح لك الباب.
لقد غاص قلبي بين أضلاعي، لا لستُ مستعدا لهذا، هذا ضرب من الجنون! ما الذي أفعله؟
استدرت عائدًا، ولكنني سمعت صوت البوابة الثقيلة تفتح خلفي، فالتفتُ لأجد الباب مواربًا قليلا ونورًا أزرق بالداخل، وضباب الثلاجة الباردة يخرج نحوي من خلاله، تشجعت لأدخل، وخطوت خطوتين وأنا أقرأ كل ما بذاكرتي المتواضعة من آيات قرآنية، وحالما دخلت لم أرَ شيئًا غريبًا.
نور أزرق خافت، والعديد من الدواليب المرقمة، نعم، هنا يضعون الموتى.
لم تكذب سارة المكان بارد بشدة، أمسكت أكتافي بقوة ولم أعد أسمع صوتا سوى مواطير الثلاجات، لا أحد هنا، هل تكفلت سارة بالأمر يا ترى؟
سأبحث عنها.
فتحت الباب الأول، وسحبت المزلاج الطويل، كانت جثة متفحمة لا ملامح فيها، أغلقها بسرعة وأنا فَزِع، فتحتُ واحدة عشوائية تحتها، كانت (بعض جثة) أشلاء فقط، منظرها جعلني أجري نحو أقرب سلة نفايات وأتقيأ وازداد خفقان قلبي.
فتحت الثالثة، كانت رجلا تظهر عليه آثار الكدمات والجروح ولكنه يبدو وكأنه نائم نظرت لقدميه حيث كانت المشرحة تثبت بورقة أسماء المتوفين، (أحمد محمد سالم), ماذا؟
ذهبت للتي تليها مباشرة، وسحبت المزلاج، رجل آخر يشبهه كثيرا، (عبد الله محمد سالم).
محمد سالم؟ محمد سالم! أو ليس اسمها سارة محمد سالم!
سمعت صوتا خلفي:
- نعم... هذان هما إخوتي، لقد دهست إخوتي بسيارتك.
التفتُ لأجد فتاةً تلف نفسها بقماش أبيض، لونها أبيض شاحب يميل للزرقة وتحت عينيها سواد كثيف تسير وهي تنزف من معصمها بشدة.
- لقد قتلت إخوتي... وجئت بقدميك لي.... أنت أيها المستهتر دمرت عائلتنا.
لم يكن صوت سارة الذي أعرفه كان صوتا مرعبًا وكأنها تتحدث بمئة صوت خبيث:
- لا أحد لي سواهما، بعد أن ماتا بقيت في منزل زوجة أخي عبد الله ستة أشهر من العذاب، وفي النهاية لم أتقبل ما حدث وجرحت معصمي في الحمام وانتحرت، أنا من اخترت المجيء هنا، وأنا التي أحضرتك، قد لا أكون أنقذتهما في حياتي ولكنني حتمًا سأنتقم لهما في مماتي.
خرجت الكثير من الكيانات السوداء الصغيرة من الزوايا المظلمة، كانوا يشبهون الغوريلات الصغيرة مليئين بالشعر، ومن بينهم كانا الرجلان الواقفان بعينين تنزفان الدم، أخواها.
تعثرتُ في الأرض وسقطت على طاولات التشريح وأسقطتُ الأدوات وأنا أشعر بما يحملني يمينا ويسارًا ويضرب بي الجدران وأنا أحاول الهروب، قوة كبيرة كانت تحملني في الهواء وتُلقي بي أرضًا.
سمعتها، سمعت سارة تضحك، لا هذا حلم، أكيد حلم.
وصلت للباب الحديدي، كان مغلقًا، لقد كنتُ متأكدا أنه كان مواربًا، من أغلقه؟
هاتفي اللعين بدأ في الرنين سارة وهي تضحك:
- لك في هذه الحياة ألا يتوقف الرنين عن أذنك، إن قتلك أسهل من شربة ماء، لكنني لن أفعل.
بدأتُ أصرخ من الألم من الضرب الذي تلحقه بي هذه الكيانات، حتى ظننت أني فارقت الحياة.
استيقظتُ في النهار في كابينة الاتصالات في حينا وأنا أبكي وأحاول الاتصال بزر الطوارئ وأصرخ:
- ردي... ردي...
أبي يأتيني ويسحبني من الكابينة وهو يبكي ووالدتي معه.
هدوء وصدمة يعترياني، طوال الطريق أسمع صوت الناس ونحن نمشي وهم يخبرون بعضهم:
- لا حول ولا قوة إلا بالله، هذا ابن الحاج خالد، له شهور على هذه الحالة.
- لا نعلم قصته مع هذه الكابينة بالتحديد.
- هرب مرتين من المصحة النفسية ليزور هذه الكابينة لعلهم يخبئون المخدرات فيها.
- ربما مسحور؟
- سمعت أنه قبل 3 أشهر عثروا عليه متسللا في مشرحة يحاول سرقة الجثث لبيعها لطلاب الطب بطريقة غير قانونية ولكنه تعثر وأصاب دماغه وأغمي عليه، ومن بعدها هذا حاله.
- كم هو مسكين الحاج خالد لما حل بابنه
- لا، ليس هذا ما سمعته، ابن خالي يعمل في المصحة، يقول إنه ارتكب جريمة، لقد اعترف بنفسه.
كنت أسمع كل هذا ولا أعلم كيف، ومتى، وأين، لا أذكر شيئًا، على أي حال حين وصلنا لنصف الطريق دفعت يد أبي وانزلقت بسرعة من تحته وركضت للكابينة مجددًا.
- يا إلهي! ارحموا دموعي على الأقل لم تلحقون ورائي؟ بما يفيدكم عذابي.
ألا ترونها؟ إنها واقفة تنتظرني على الباب ودمها يغرق المدخل...
كيف لا ترونها؟
ستقتلني إن ابتعدت...
لا ينبغي أن أبتعد عن الكابينة...
يجب أن أرد... يجب ان أرد...
الهاتف سيرن.
ألو.
ألو.
ردييييي...
تمت
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا