"العرافه"
"بقلميأنجلاء/حمد"
كانت تعيش امرأة عجوز تُعرف بالعرافة. كانت تعيش وحدها في كوخٍ خشبي صغير، يحيط به حديقة مليئة بالأعشاب والنباتات الطبية. لم يكن أحد يعرف الكثير عنها، سوى أنها تمتلك قدرات خارقة تمكنها من التنبؤ بالمستقبل، وشفاء الأمراض، وكشف الأسرار المخبأة في النفوس.
كان الناس يخافون العرافة ويحترمونها في الوقت ذاته. لم يجرؤ أحد على الاقتراب من كوخها إلا في الحالات الضرورية، عندما تواجههم مشكلات لا يمكنهم حلها بأنفسهم. كانوا يأتون إليها في الظلام، حيث تسود السكينة، ويأملون أن تساعدهم دون أن يتحدثوا عن زيارتهم لأحد.
هيا نتعرف عن قصتها *ؤﯿ
في أحد الأيام، جاء إلى القرية رجل غريب. كان شابًا قوي البنية، يرتدي عباءة داكنة تغطي معظم جسده، وملامحه غارقة في القلق والحيرة. لم يتحدث إلى أحد، ولم يُلقِ التحية على من صادفهم في طريقه، بل سار مباشرة نحو كوخ العرافة. كان سكان القرية يراقبونه من نوافذ منازلهم، يتساءلون عن سبب قدومه إلى قريتهم وعن السر الذي يخفيه.
عندما وصل الشاب إلى باب كوخ العرافة، توقف للحظة. نظر حوله، كأنه يتأكد من عدم وجود أحد يراقبه، ثم قرع الباب ثلاث مرات. فُتح الباب ببطء، وظهرت العرافة. كانت ترتدي رداءً رماديًا فضفاضًا، وعينيها تشعان بحكمة السنوات الطوال التي عاشتها.
"تعال، ادخل،" قالت العرافة بصوت هادئ. لم يرد الشاب، بل دخل إلى الكوخ، وجلس على الكرسي الوحيد الموجود بجانب المدفأة. نظرت إليه العرافة مطولًا قبل أن تسأله: "ما الذي يجلبك إلى هنا؟"
تنهد الشاب بعمق، ثم قال: "لقد فقدتُ طريقي. لقد ضاع مني شيء ثمين، ولا أعلم كيف أستعيده."
رفعت العرافة حاجبيها، وسألته: "وما هو هذا الشيء الثمين؟"
صمت الشاب للحظة، ثم قال بصوت مليء بالألم: "إنه روحي. أشعر أنني فقدت جزءًا من روحي ولا أعلم كيف أستعيده. أحتاج إلى مساعدتك، فأنا لا أستطيع العيش هكذا."
نظرت العرافة في عينيه بعناية، ثم قالت: "الروح ليست شيئًا يمكن فقدانه بسهولة. قد تكون ضائعة، أو متخبطة، لكنك تستطيع العثور عليها إذا عرفت المكان الذي تبحث فيه."
"ولكن أين أبحث؟" سأل الشاب بلهفة.
أخذت العرافة نفسًا عميقًا، ثم نهضت من مكانها وتوجهت نحو رفوف مليئة بالكتب القديمة. سحبت كتابًا ضخمًا، وفتحته على صفحة محددة. نظرت فيه لبرهة، ثم قالت: "هناك ثلاثة أماكن في هذه الغابة حيث يمكن للروح الضائعة أن تختبئ. الأول هو عند شجرة الحكمة، حيث تتحدث الأرواح القديمة. الثاني هو عند نهر الأمل، حيث تتطهر الأرواح من أحزانها. والثالث هو في كهف الشك، حيث تختبر الأرواح قوتها وعزيمتها."
نظر الشاب إلى العرافة بقلق وقال: "ولكن كيف لي أن أعرف أي من هذه الأماكن هو الصحيح؟"
ابتسمت العرافة بحكمة وقالت: "هذا شيء يجب أن تعرفه بنفسك. فقط قلبك يمكنه أن يرشدك إلى المكان الصحيح. استمع إليه، واتبع حدسك."
وقف الشاب، وشكر العرافة على مساعدتها، ثم غادر الكوخ وهو يشعر ببعض الأمل لأول مرة منذ زمن طويل. قرر أن يبدأ رحلته بالبحث عند شجرة الحكمة. قضى أيامًا وهو يسير في الغابة، حتى وجد الشجرة أخيرًا. كانت شجرة ضخمة، تبدو قديمة جدًا، وكانت أوراقها تهمس بلغة غامضة. جلس الشاب تحتها، وأغمض عينيه، وأصغى إلى الهمسات.
بعد فترة من التأمل، أدرك أن شجرة الحكمة كانت تخبره بأن الروح لا تضيع عند الحكمة، بل تعثر عليها. لكن الشاب لم يشعر بأن هذا هو المكان الذي يجب أن يكون فيه، فغادر الشجرة واتجه نحو نهر الأمل.
عندما وصل إلى النهر، رأى مياهه الهادئة تجري ببطء، تعكس السماء الزرقاء فوقها. قرر الشاب أن يغمس يديه في الماء، فشعر بشيء غريب. كان النهر يطهره من همومه، ويغسل عنه كل الألم الذي حمله في قلبه. لكن على الرغم من هذا، لم يشعر الشاب بأن هذا هو المكان الذي سيعثر فيه على روحه.
ثم قرر الشاب الذهاب إلى كهف الشك. كان الكهف مظلمًا وباردًا، وصدى خطواته يتردد في أرجاءه. شعر بالخوف والقلق يتسللان إلى قلبه، لكنه قرر أن يواصل السير. كان يعرف أن عليه أن يواجه مخاوفه وشكوكه إذا أراد أن يجد روحه.
في أعماق الكهف، وجد الشاب مرآة قديمة. عندما نظر إليها، رأى انعكاسًا لنفسه، لكن لم يكن انعكاسًا عاديًا. كان يرى نسخة منه تحمل كل آلامه، ومخاوفه، وشكوكه. أدرك الشاب في تلك اللحظة أن روحه كانت موجودة طوال الوقت، لكنها كانت محتجبة خلف كل تلك المشاعر السلبية التي كانت تعتريه.
فهم الشاب أنه لاستعادة روحه، عليه أن يتصالح مع تلك المشاعر ويواجهها بشجاعة. قضى الشاب وقتًا طويلاً في الكهف، يتأمل انعكاسه في المرآة، ويعمل على قبول كل جزء من نفسه، حتى الأجزاء التي كان يرفضها.
في النهاية، شعر الشاب بأنه قد استعاد روحه. لم يعد يشعر بالضياع أو الحيرة، بل شعر بالسلام الداخلي والطمأنينة. غادر الكهف، وعاد إلى العرافة ليشكرها على إرشادها.
عندما وصل إلى كوخها، وجدها تنتظره عند الباب. نظرت إليه وابتسمت قائلة: "أرى أنك وجدت ما كنت تبحث عنه."
أومأ الشاب برأسه وقال: "نعم، وجدت روحي، وعرفت أنني كنت أبحث في المكان الخطأ طوال الوقت. لم تكن الروح ضائعة، بل كانت مختبئة خلف مخاوفي."
ابتسمت العرافة وقالت: "هذا درس يجب أن يتعلمه كل إنسان. الروح لا تضيع، بل تُختبر. وعندما تواجه تلك الاختبارات بشجاعة، تجد نفسك وقد أصبحت أقوى وأكثر حكمة."
شكرها الشاب مرة أخرى، ثم غادر القرية وهو يشعر بأنه قد وُلد من جديد، حاملاً في قلبه العبرة التي تعلمها من العرافة، والعزم على أن يعيش حياته بصدق وشجاعة.
تمت
التعليقات
للتعليق يجب عليك تسجيل الدخول اولا